بورتريه للفنانة العراقية هناء مال الله أصباغ ورماد وأسئلة جذرية

عالية ممدوح

ـ1 ـ
هذه المرة سألت التشكيلية والباحثة العراقية هناء مال الله أن يكون اللقاء في مرسمها اللندني. أجابت، لكنه بعيد قليلا. هل هو أبعد من البلد مثلا، أجبتها؟ أمر فريد أن يلتقي الكاتب والفنان في مكان مكتظ بروائح عدة، ما بين كل أنواع الدهان والرماد! ستتعبين، قالت. سيكون الأمر أجمل، قلت. تم اللقاء في البدء بيننا نحن الثلاثة: الصديقة مها شريف يوسف رئيسة الجمعية العراقية التي استضافتني وهناء وأنا في مقهى قريب من محطة هامر سميث. قبل أعوام حين ألتقيتها في باريس كانت تبدو مقطعة الأوصال وكأنها حضرت لكي تلملمها، ثم غادرت إلى لندن وبدأت بتشييد ذاتها ولوحتها ونظرياتها البحثية.
بدت لي كشكل آسر وهو يدون أسئلته الحارقة. ودعنا مها يوسف وبدأنا الرحلة إلى حي ستراثم هل. أظن بدأت بكتابة هذا البورتريه قبل أن التقيها، فقد كانت أخبارها ونجاحاتها، أما أن أقرأ عنها في الصحافة العربية أو تصلني من عدة أصدقاء حول ما نشر عنها في الصحافة البريطانية. كنت أتابع انجازاتها وكأنني وضعت لها ميزانية ما وعليها أن تتخطاها دون علمي وعلمها. وفعلا تخطت جميع القيود والرقابات، وأعلنت عن مساحات هائلة للحرية لم تكن تلائمها ربما، إلاّ لندن، وقد مضى عليها هنا ما يقارب العشرة أعوام.
ترى ماذا أخذت منك لندن؟
بلا مبالغة، منحتني ما يعادل وأكثر من تجربتي العراقية والتي كان عمرها في الأصل خمسة وثلاثين عاما. هذه العاصمة تمنح المرء وعلى الصعيد الإنساني، وبدرجة مقاربة للفن، ان أكون أكثر إنسانية مما كنت في السابق. هنا لا يجوز الانتقاص من أي مخلوق بشري أو حيواني. عليك احترام الوجود والحياة. لقد شفيت من الغطرسة العربية التي كنت أراها وما زلت لدى الكثيرين من حولي. فعلى مدى وجودي هنا تعلمت قيمة ومعنى أن تكون متواضعاً.
كنا نبدل قطار الانفاق بقطار حقيقي، ثم نأخذ الباص. تدرجنا وصعدنا في جميع أنواع المواصلات، ولم نجرب لا الزورق البخاري ولا الطائرة، لكن أقدامنا كانت أهم الوسائل أيضا!
وكنا نتحادث عندما ذكرتها بأعمالها السابقة التي كانت أو بدت انقاضاً. انقاض لوحات، حيث دورة خراب العراق.
في بغداد تمت إهانة المتميز بالسرقات وهذا الذي استدعى تحطيم سطوح أعمالي.
ولكن اليوم الخراب صار تاما، أكتملت دائرته. أنتِ عائدة قبل شهور من بغداد، هل تبقى أي شيء هناك يا هناء؟ كيف هي تلك..ال بغداد..؟
هي ليست مدينة كمكان. بالنسبة لي كسرت أحساسي باللجوء. أول مرة وطئت قدمي بغداد غاب ثقل اللجوء عني. فبعد تسع سنوات من الاغتراب عيني نضجت وبدأت بتقييم الأشياء بحجمها الطبيعي والحقيقي. وقتي لم يكن كافيا لاستيعاب التفاصيل والاستغراق بها، فكل شيء كان سريعا لكنه ممزوج برعب حقيقي. بغداد كمدينة، ليست كذلك، انقاض هي لما كانت عليه من انقاض سابقاً. مبرقعة بالخرافة والشعوذة. مدينة للجهل والزيف، ومشربة بالعسكرة والموت وفي جميع الجهات.
لكني سمعت أن هناك جيلا من الفنانين شكل صيتاً عالياً، هل التقيتِ بهم، ببعضهم، ومن هم؟
وددت أن أرى الأشياء الفنية. ألقيت محاضرات حول الفن. تحدثت عن تجربتي في لندن. لماذا الفن العراقي انهار وبات خارج الأسواق العالمية. المؤسسة منهارة وبها فساد لا مثيل له، فالذي يعمل هو الذي يحط من قدر الفن بسبب انحطاط ذوقه وفساده. لدينا مواهب ممتازة بحكم التاريخ والحضارة، هؤلاء أصحاب امتياز، لكنهم ما أن يصلوا الجامعة حتى يتم قتل مواهبهم بالتخلف والإقصاء والجهل. تعرفت على بعضهم وقد عملت تواصلا مباشراً مع البعض الآخر وقدمت أحدهم ويدعى عقيل خريف. كتبت له مقدمة الدليل لأعماله. وفنان آخر من الحلة، محمد عبد الوصي يعمل أفلاماً وفنا معاصرا وفوتوغراف. وقد قدموا عملا إدائياً احترافياً في الحلة وفي الشارع فأثاروا الاهتمام.
تغيرت، وتغيرت توجهاتك و…
لندن عاصمة عالمية في المخاطرة التي يواجهها الفنان. صحيح، تغيرت وقد أخذت وقتا طويلاً حتى استوعبت الدائرة العالمية التي وجدت في عصبها الفني، فاكتشفت مدى زيف المؤسسة وبنيتها الأكاديمية العراقية والعربية. عندما حضرت إلى لندن درست وأخذت منحتين كأستاذ زائر لمدة أربع سنوات فاكتشفت مدى زيف النقد العراقي وانهياره كلغة نقدية أكاديمية رصينة، وليست مجرد تهوميات شعرية أو أدبية.
هذا يقودنا إلى طرح سؤال طريف وربما فاجع علي طرحه في جميع الأحوال، وهو، كامرأة ومن الشرق الأوسط وفنانة عراقية كيف عثرت على نفسك كفنانة في لندن؟ في بغداد كنت في قلب مركز الحركة الفنية. هل موطئ قدم هنا أفضل من قلب مركز هناك؟
دائما موطئ القدم ليس ثابتاً، فهذا يتطلب مقاومة وكفاحاً. في معرضي الأخير ـ تلوث كيمائي ـ أشارت بيدها على هذا < الدرج >. هو عبارة عن سلم اشتعل حتى تحول هو الآخر إلى فحم. إذا ما صعد المرء إليه يتفتت، وبالتالي، فلا أحد نزل منه أيضا. فالنازل والصاعد في طريقهما للجحيم. هي أعمال ثلاثة ابعاد. فن جاهز. وهذا المعرض كان يهتم بمرجعية ومصادر الفنان. وكان من أهم المعارض لمشروعي الشخصي فقد كان من قبل جهة أجنبية هي < دولف > والزوار أجانب. وقد حاضرت فيه وتمت المحادثة ما بين الجمهور وبيني. وقد كتب أحد النقاد عنه: إنه من أفضل خمسة معارض، أدعوك إليه في هذا الأسبوع.
إنك إذاً في منعطف عنيف؟
صحيح وجد صعب. أشعر أن الوقت جد قصير والمنافسة قاتلة في لندن، والأدوات عليها أن تتطور بسرعة وبشكل أصيل، وليس دجلاً وفبركة كما يعرض، أو علي أن أتوقف.
والفرص يا هناء، هل هي عادلة في العروض والتقيمات ما بين الذكور والأناث؟
أمر العدالة مشكوك فيه، لكنه ليس مستحيلا أن لا تنال الأنثى الفنانة فرصتها الممتازة. مثل لويز بروجوا الفرنسية، أو ترس آمن تركية الأصل بريطانية الجنسية، ومنى حاطوم الفلسطينية. هناك فرص للأناث كبيرة جداً بفضل المستوى العالي الذي قدمت به الفنانة أعمالها الفنية.
حين وصلنا المرسم وفتحت الباب، كان المكان بارداً، حالا أشتغلت المدفأة. كان المكان يبلغ أعلى درجة من درجات انفراط العراق لكني لم أشاهد قيامته وأنا أتلفت وأرى جداريات مخيفة في حجمها وسطحها الذي اشتعل فأصبحت المساحات اللونية سوداء فتراكمت فيها القسوة وتجسدت الوحشة والوحشية. كان العراق يفقد مادته الأولية كحدود وأفق ومفهوم ومكان وزمان، فكنت اراه يغيب في القاع، ولا أعرف، ربما كيف يكون قابلا للبناء على أيدي جيل تمثل هناء مال الله إحدى رموزه وهي تخالف السائد حتى لو بدا عنيفا، فالعراق يحمل غواية الاجماع العالمي في هرسه وتدميره. في طريق العودة كان علينا الاستئناس بصحبة الفنانة والمعمارية وجدان نعمان ماهر، صديقة الفنانين والكتاب والشعراء والكاتبات، وصاحبة امتياز أول مجلة فصلية تعني بشؤون العمارة في أعوام الثمانيات بعنوان ـ عمارة ـ حملت أعدادها راهنية هائلة وبأسماء عريقة ما بين الشعر والنقد والمعمار. استبقت هذه المعمارية التشييد وخيال البناء والعراق يخوض حربا طاحنة وغبية، وهي كما جميع الفنانين تدرك إذا ما بدأت أي حرب فلن تتوقف.. وهي.. لم تتوقف حتى اللحظة.. ولنا حديث..

السبت 28 شعبان 1437 هـ- 04 يونيو 2016م
http://www.alriyadh.com/1508754