عالية ممدوح
1-
في إحدى زيارات الصديق الناقد المصري المعروف الدكتور صبري حافظ لباريس اخبرني عن توقه لإصدار مجلة تحمل اسم “الكلمة”، أول مجلة رشيقة وجادة سعى إليها حين كان في عشرينات عمره، أضاف شارحا :
لكن هذه المرة ستكون الكترونية .
تضايقت بسبب صعوبة ذلك على عيني ذات المرض المزمن ولكن، في الأول من يناير 2007صدر العدد الأول منها وعلى الفور شكلت اختراقا جادا لمنظومة ما ينشر في الدوريات التابعة للمؤسسات الحكومية والتي ما زالت تتعثر بانتظام أو لتلك المجلات الالكترونية أيضا. بدت “الكلمة” في أعدادها الأولى كإضافة وإكمال لمسيرة – الكرمل – التي توقفت وكانت صادمة لنا فتركتنا في حالتي اليتم والمرارة من غيابها. تصورت شخصيا، أن توقف الكرمل لا علاقة له بالوضعية المالية أو الإدارية أو المزاج الشخصي، ربما هو أمر يذهب إلي اليأس مما بلغته الثقافة العربية وذاك البؤس الذي وصل حدود النكتة لفعلي لذة القراءة وعشق الكتاب. أظن هذا التجاذب هو الذي دفع حافظ لإصدار “الكلمة” مدافعا عن رحابة وحرية واختلاف المثقف العربي. كتب في افتتاحية العدد 13مدشنا العام الثاني لصدورها بالتركيز على تلك المروحة الشاسعة التي وضعها في المجلة من نشر فكر الاختلاف والعقلانية واعادة التأهيل للذهن النقدي: “الاحتفاء بالقيمة مهما كانت مكانة من ينتجها “. في افتتاحية العدد الأول الذي صدر في العام 2007كتب : “إننا لا نستطيع الحياة كبشر جديرين بالانتماء للبشرية دون الكلمة الفعالة ذات الدور الناصع الوضوح. إن شرف الكلمة لا ينفصل عن شرف المثقف واستقلاله تنبثق هذه الكلمة عن وعي بأن الواقع الثقافي العربي المتردي على الدوام وخاصة في العقود الأخيرة في حاجة ماسة إلى منبر مستقل شجاع يعيد للكلمة فاعليتها وصدقيتها “.
2-
تصفحت تقريبا كل عدد من أعدادها ال 12وقراءة ما استهواني وخزن ما أود الاحتفاظ به فأكشتف أنني أمام جنينة حقيقية حاولت بشخص مؤسسها أن تبقى الأرض الافتراضية ذات حرك ثقافي رصين، حي ومستديم بسجالية ساخنة يوصل ما بين الجهات الهوامش والمتون، المدن والمحافظات البعيدة في عموم البلاد العربية والإفريقية. الناقد حافظ له منهج في النقد كما له منهج في تصميم أفكار وتوجهات هذه المجلة فقد عمل من قبل في مجالس تحرير المجلات الأدبية ؛ مع يحيى حقي في مجلة “المجلة” في الستينيات من القرن الماضي كما كان من منشئي الملحق الأدبي لمجلة “الطليعة” المصرية ذات الصيت العالي ولليوم. وشارك في مجالس تحرير عدد من المجلات الدولية والدوريات الجامعية في بريطانيا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة، هذه الخبرات الطويلة والعميقة جعلت ل “الكلمة “مرجعيات ثقافية وفكرية عديدة تربطها وتغنيها المواهب الجديدة الطازجة والأسماء المكرسة المميزة والاجتهادات والتراجم والمراجعات والسرديات التي كان بمقدوري العودة إليها كمرجع وتثبيت ذلك كأرشيف ووثيقة. لقد سعدنا بنشر 12رواية عربية قامت المجلة بنشرها أول مرة لأسماء عربية من جيل السينيات المميز والمكرس لكل من صنع الله ابراهيم والبساطي والفقيه والتكرلي الخ ولجيل آخر من كتاب الرواية اللامعين كإلياس فركوح والعراقي علي بدر كما ولأول مرة نقرأ أدبا جديدا قادما من موريتانيا، هذه الاطلالة حرصت المجلة وصاحبها على “التأكيد على وحدة الثقافة العربية “فقدمت سرديات ونصوصا وملفات ذات نكهات استفزازية واقعية خلاسية وفنطازية الخ .
3-
ترى من يؤكد الوعي بقيمة الثقافة ؛ الكتاب الجاد، الناقد الرصين الجذري، وزارارت الثقافة والمؤسسات التابعة والهيئات التي أحيانا تبدو مضللة ومفبركة ؟. لقد قدم الانترنيت فرصا استثنائية لكشف ذاك الانحطاط الذي تمارسه بعض الوزارات أو الوزراء أو المسؤولون عن الثقافة والمثقفين فاضحا السفاهة وهدر الأموال. دخل موقع “الكلمة” وعلى مدار عام كامل وعبر مؤشر غوغل كانت المجلة في أعدادها الأولى تشير إلى الموقع العاشر وبعد مرور نصف عام انتقلت للمنزلة الأولى وذلك بفضل العدد الكبير الذي يصل شهريا إلى مائة وثلاثين متصفحاً أي ما يعادل مليون قارئ لمجلة فكرية ثقافية بهذا التنوع العربي وعلى امتداد هذه الأمة، : هذا القارىء : كان يرى أن كل شيء يختفي من بين يديه : البلدان الاوطان الحرية والعدالة. إن انتظام الصدور بمواعيد صارمة ببداية كل شهر وغنى المواد كانت واحدة من أسباب كثيرة جعلتها تلبي الرغبات والحاجات التي يفتقر إليها واقعنا الثقافي – الأرضي – .
4-
تابعت بشغف النصوص الحديثة المغامرة والمفارقة لما ينشر “بعضها” بالطبع وذاك الانفتاح الخالص لقصيدة النثر التي ما زالت ملعونة في بعض المجتمعات العربية بالرغم من انها أسست جيلا بعد جيل أسماء ورؤى غاية في الفرادة والتميز. لقد قرأت بتأثر لحشد من الأسماء العراقية الناهضة المميزة التي كانت “الكلمة” كاشفة لنصوص أساسية وجوهرية بجوار أسماء مكرسة في المشهد العراقي. كتابات شغبها جميل وسردها آسر وإذ أذكر الأسماء العراقية المشاركة ما بين الرواية والشعر والسرد والبحوث استهوتني اشراقات الذين يعيشون في المنافي والزمهرير والوحدة كما هو حال عبد الخالق الركابي المقيم في تلك البلاد مرورا بالشاعر محمد مظلوم المقيم بسوريا وسلام ابراهيم الساكن بلاد الدنمارك، الذي كلما اقرأ له ومنذ أعوام أشعر انه يحاول تخصيب اللغة وهي تنهض بين فتنة الأيروسية التي تتفوق على انخطافات التصوف المشرعة من الميثولوجية العراقية كما في النصين المنشورين : “التسلل إلى الفردوس ليلا “وعشتاري العراقية “.
في اوائل السبعينات وفي بغداد شاهدت أحد أعداد مجلة “الكلمة” العراقية بيد الشاعر فوزي كريم وحين تصفحتها للمرة الأولى كانت تبدو متقشفة طباعيا ذات كاغد اسمر خفيف وإخراج بدائي خطوطها عادية لكنها كانت ذات طعم وتأثير جذريين وقتذاك وكأنها فرقة مشاة ؛ جميع من أشترك في الكتابة والتأسيس والنشر والطباعة. تريد أن تعسكر بعيدا عما هو متاح أو متوفر في الصحافة الحزبية والجماهيرية الشعبية الخ. أسماء ذات بريق على الأقل بالنسبة لي تريد أو تحاول ان تكون عكس التيار السائد. كان فضولي لا حد له وأنا اقرأ نصوصا كالديناميت لأعمال غير عادية نشرت وقتها. استعنت بالصديقة الكاتبة والصحافية إنعام كجه جي التي تمتلك كنزا حقيقيا من الحوارات الصحافية المهمة وعلى مدار العقود الثلاثة المنقضية لو تزودني بحوارها الذي تم قبل سنوات مع السيد حميد المطبعي صاحب مجلة الكلمة العراقية التي كانت تصدر في مدينة النجف الأشرف ثم انتقلت لبغداد بعد ذلك وصدرت بضعة أعداد ثم توقفت. يقول المطبعي بفحولة فاقعة في ذاك الحوار ؛ إن “الكلمة” العراقية لم تنشر للكاتبات لأنهن “تافهات”. أذكر اليوم أنني نشرت أول مقال لي وباسمي الصريح بعدما تخفيت تحت اسم مستعار ونشر مقالي كافتتاحية للعدد وكانت هناك دراسات لافتة واحدة لاسم مهم هو عزيز السيد جاسم. يا الله ما بين الكلمة العراقية الأولى التي كما اخبرني الدكتور صبري حافظ انه هو أيضا كان وراء اختيار المطبعي لاسم الكلمة حين كان الأخير يزور مصر في أوائل الستينات. وبين “الكلمة” الالكترونية ؛ مذاهب انقرضت وايديولوجيات تهاوت ودول اختفت وأفكار فسدت وأسماء انحرفت وخانت وأجيال تمردت وكائنات حديثة حضرت وفيض من عصاة ومتمردين، شبان وشابات ومن جميع أنحاء العالم الذي يدعى عربيا تضاعف. تحضر الكلمة الافتراضية في التوقيت الملائم الذي يحمل تجليات النقد كصاحبها فتصير مصدرا عميقا ومهما لتلك النصوص والأسماء التي بدت لنا بلحمها الحي، بسيولتها وجديتها، لجيل عصري يبحث عن اللامألوف المغامر المعارض المضاد والتحريضي، من هنا تبدو المجلة بكل عناصرها واطيافها فعل مقاومة ليس بالمعنى الشعبوي وأنما كاحتجاج صادم يضيء وإلى الأقاصي.
الخميس11 ربيع الأخر 1429هـ -17 أبريل 2008م – العدد 14542
https://www.alriyadh.com/335284