(( أيتها الذاكرة ، أيتها الذاكرة ..
ماذا تريدين مني ….. ؟))
( بول فرلين )
(( المياه النظيفة جدا لا تحتوي على أسماك ))
( ……… )
(( إحذر المرأة التي تتحدث كثيرا عن الشرف ))
( مثل فرنسي )
منذ الصفحة الأولى من رواية «الولع المميت» للمبدعة العراقية الفائزة بجائزة «نجيب محفوظ» للرواية «عالية ممدوح»، ومنذ أسطر الاستهلال، يصدمك الأسلوب ونبرته النفسية الهادئة – ظاهراً – التي تسيطر على رسالة ” هدى ” بطلة الرواية / الراوية الموجهة إلى صديقتها «بثينة» – صديقة الستينات إلى التسعينات – وهي تخبرها بمجيء زوجها «مصعب» وزوجته الرابعة الشابة «وداد» إلى إنكلترا لقضاء مدّة معها – والراوية زوجة مصعب الثالثة – ومع ابنهما «مازن» طالب الهندسة في «كاردف».
تقول «هدى»: «بثينة.. علينا عدم نسيان أن المستقبل هو الأهـم، وليـس الماضي ، لابدّ أن يجد المرء بعض الأمور كي ينتسب إليها. يريد التخفي كي يزداد اطمئناناً، فأكون مثلاً بين المستقبلين للسيّد «مصعب» زوجي الذي مازال الشرعي، وزوجته الرابعة السيّدة «وداد..» – ص5 – وهو أٍسلوب «يعقلن» القلق و«يمنطق» الإحباط سردّياً لاسيما حين نتأمل – لاحقاً – طبيعة العلاقة العاصفة التي جمعت بين «هدى» ذات الثمانية عشر عاماً والموظفة في دائرة السكك الحديدية وبين «مصعب» ذي الأربعين عاماً آنذاك ومديرها في العمل ، تلك العلاقة التي وسمها «الولع» الجامح الذي دفعها إلى أن تلحقه إلى بيروت وتتزوج منه ، شاقة عصا الطاعة على عائلتها المعارضة لهذه الزيجة، وبرغم فارق العمر بين الاثنين، والأهم برغم معرفتها بأنه متزوج من امرأتين قبلها . لم يكن فيها – كأنثى – شيء متفرد يجذبه إليها. لا يذكّرها هو فقط بهذه الحقيقة كثيراً «أنت النحيلة، الهزيلة»؛ «أنت لست جميلة»، بل هي نفسها تتحدث عن نفسها بشعور فاضح بالنقص، تتحدث عن بنيتها الغلامية، ونحافتها ورقبتها الطويلة وأسنانها المفروقة..إلخ. حتى أصدقاء عمره ومنهم قريبه «رامي» كان يقول له: «ألا ترى كم هي شاحبة وضعيفة وصفراء، إنها ليست جميلة يا مصعب». ولا يصعب عليك أن تمسك بالروح الإنقاذية – وعقدة الإنقاذ نتاج المركب الأوديبـي – في ارتباط مصعب بهدى وذلك حين نستمع إليه وهو يصف وقفتها الأولى أمامه: «تقف أمامي في غرفة الاجتمـاعـات، بحـذائهـا العتيق المترب، كان خصرها ناحلاً، صغيراً سيقطع بعد ثوان، جذع طويل، وحوض متسع، وساقين غير متناسقتين، لكن كان هناك شيء ما في إطلالتها، في وجهها، في عناصر تركيبتها الفيزيائية، شيء ترقبه وتريد التفوّه به حرفياً لكنك لا تستطيع. أمر بين الجرأة والبداوة، والخوف والعداوة، شيء خارج الرداء البسيط والجسد الناحل ولا علاقة له بالجمال أو الدمامة.. هو أمر يكشف عن المشاعر الخاصة.. وهو مفرط في الوقت نفسه بالشراسة (…) لا أعرف أين هو موجود، أفي قبضتها وهي تشير بها، وكفها الكبيرة، وأصابعها الطويلة، وأظافرها متسخة على الدوام، أم كان في حركاتها ككل؟. فألحظ ذلك وأطلق عليه منذ ذلك الوقت: «العصيان» ( ص 98 – 99 ) وحسب «شيء» غير معلن تماماً وغير قابل للتحديد ركّب له مصعب إطاراً نظرياً ظاهراً أسماه الصدق مرة، والشراسة مرّة ثانية، والعصيان ثالثة، وغالباً ما تخفي لعبة الاحتمالات التفسيرية بين تلافيفها دوافع لا شعورية ماكرة وشديدة التعقيد قد يكون من أبعدها غوراً اللعب على الوتر المحارمي والذي يتمظهر في صورة دوافع إنقاذية – قد تكون مباركة جمعياً أحياناً ومن قبل الضمير الفردي أيضاً – والذي تنسرب عبر مساراته دوافع سادية مدمّرة . يقول مصعب: «كانت شخصيتها تتوهج، ومواهبها تتأسى، فكنت أنتشي بنفسي فعلاً. ستصغي إلي.. ستنتظرني بكلّ الشكوك والصراخ، سأدفعها للزحام للبحث عني بين الغرف المقفلة في فنادق الدرجة الأولى في بيروت وغيرها، وأنا ألاحق – صبيحة – صديقتها من مدينة إلى أخرى.. سأدعها تزحف ورائي مهرولة بين المطارات ومحطات القطار، ويجـب أن أقيهـا كل شيء، العائلة، الأخوة، الأصحاب، الصديقات. سأقيها من الجميع إلا مني» (ص99 ) . وفي تعهده الحازم الأخير – سأقيها من الجميع إلاّ مني – كان يقوم بسلوكات شديدة الأذى والغرابة أفصحت عنها جزئياً إشارته إلى أنه سيجعلها تطارده من مكان لآخر في الوقت الذي يلاحق فيها صديقتها – صبيحة – وهي صديقة طفولتها وشبابها التي لا يتوّرع عن الحديث لها عن اتصاله بها ومضاجعتها. لا يتورع عن دعوة إحدى النساء الولوعات به إلى البيت بحضور زوجته هدى. هدى التي تستقبل كل ذلك بروح مازوخية صارخة فتعلن رغم كل هذه الأفعال أن مصعباً هو موضوع حبّها الأول والأخير وأنّها، على استعداد لارتكاب جميع الجرائم للوصول إليه»، وكأننا هنا أمام صورة من الجدل «الهيغلي» يجري في الكواليس الخلفية للذات الإنسانية. فأطروحة «مصعب» السادية يقابلها «طباق» هدى المازوخي الذي ينتج عنه «تركيب» سادومازوخي تلعب في أحشائه الصراعات المتضادة – المتكاملة التي تعود «كتركيب» الآن لتشمل بمضاعفاتها «الخلاقة» والمدّمرة حياتي الطرفين : مصعب وهدى. تقول هدى بعد أن جاء مصعب بضرّتها الرابعة – الشابّة – تقول لنفسها في مونولوجاتها المدوية – والرواية بأكملها عبارة عن مونولوج طويل متفجّر – : (إذا وصلنا إلى الدار فسأنزل إلى «قدميه» أجرّهما إلى صدري، أنزع جوربيهما واحداً بعد الآخر وأمسك بالقدمين أقبلهما بين يدي» – ص 23 – هذه المشاعر الاستخذائية الطافحة تأتي بعد أكثر من عقدين من علاقة عذاب وضنى متأججة . وإلى الآن تحدّث هدى صديقتها «بثينة» – وتحدثنا – عن أنموذجها الحبي الذي استحوذ على وجودها مضلّلة البصيرة ومغيبة القدرة على الحكم النهائي الحاسم. إنها تحاول أن تضللنا نحن المتلقين أيضاً . فهي تتحدث بحماسة عن مصعب الإنسان والعاشق والمناضل والإداري الناجح كأنه هبة أو لقية فيعبر انبهارها الملتهب – مثلما هو الحال لدى مصعب – عن دوافع لا شعورية ماكرة وشديدة التعقيد قد يكون من أبعدها غوراً اللعب على الوتر المحارمي الذي يتمظهر لدى الأنثى – في كثير من الأحوال وبخلاف الذكر – في صورة استقبال مازوخي باهر يتكفل الإبداع في تقديمه في أعظم التشكلات الباذخة – رواية الولع في “تركبيها” السادمازوخي العشقي تذكرنا – مع اختلافات كبيرة جداً سنحلّلها لاحقاً ببطلي رائعة «إميلي برونتي» «مرتفعات وذرنغ» حيث العلاقة العاطفية المميتة بين «كاثرين إيرينشو» و«جون هيثكليف» الذي يعده النقاد صورة لمكبوتات المؤلفة شديدة الشراسة التي كانت تسمّى في حياتها بـ «الميجور» لشراستها وسلوكاتها السادية ( في إحدى المرات ظلت تضرب كلبها على عينيه حتى أدمته ) والتي تذكرنا بمؤلفة «الولع» من خلال «مقلوب» معادلها الرمزي وهي «هدى» – هذا الاستقبال المازوخي يربك استقبالاتنا الإدراكية ويجعلنا نصوغ البنى الواقعية وفق ما نتمناه وتفرضه رغباتنا اللاّئبة دون اعتبار للشروط الملموسة وكأننا نعيش وسط لعبة عقلية متصدّعة بل فصامية . حين تسمع هدى وهي تتحدث عن الميزات الأصيلة لمصعب إنساناً وعاشقاً ومناضلاً وموظفاً كبيراً يجرفك – مثلها – الانبهار بهذا الرجل العصامي صاحب لإرادة الحديدية والشخصية المؤثرة والإيحائية الأخاذة.. لكنها – ومن حيث لا تدري حيناً وبفعل ربكتها اللا شعورية أحياناً – تقدم لنا – وبصورة مهادنة – التفصيلات السلبية المناقضة – ويبدو أنّ هذه الطريق هي السبب المبطن لكلّ كوارث الحياة البشرية – فالإنسان – وهذا من أعظم كشوفات التحليل النفسي كائن تبريري – rationalizing human being – وليس كائنا منطقيا كما يشيع الفلاسفة المتفذلكون ، الإنسان يرى الأشياء بعين لا شعوره لا بشعوره ولا بعقله . فبرغم كل السمات الإيجابية التي تطرحها ليلى ومازن ووداد – الزوجة الرابعة – فإنّ مصعباً لم يكن ذلك الأنموذج الذي يستحق أن يحبوه ويخشوه إذا حاكمناه عقلياً . فهو كإنسان مليء بالمساوئ ، لا نعلم مثلا ما الذي أجبره على الزواج من امرأة تكبره بخمسة عشر عاماً ويغمض عينيه حين يمارس الجنس معها أو يقوم بواجبه الزوجي معها في الظلام . في سلوكه كان «حامياً، عصبياً، مرتاباً، وشكاكاً، ويريد أن يرى نفسه مركزاً للكون وبشكل خاص بين النساء. وكرب أسرة تكفينا الإشارة إلى محاولات إبنه «رياض» المتكررة للانتحار والتي انتهت بموته والذي يصفه بـ«انفصال» نفسي غريب :
«بدا لعيني وهو مسجّى أمامي في غرفة الصالون الفسيحة وكأنه عاد إليّ على نحو ما . هبط ببطء، ونحن في الليل، أنا والآنسة نغم بجواري» ( ص99 ) إنه لا يتذكر بالضبط حتى عدد المرّات التي حاول فيها إبنه الانتحار . لقد كان السبب في دفع هدى التي أحبته بجنون إلى الانتحار ثلاث مرّات وكان الطفل رياض شاهداً على محاولتها الأولى . أمّا كـ ” مناضل ” فقد كان يكره الجميع ويشك في كلّ من حوله من رفاقه ولا يتورع عن تقديم الرشى لضمان انتخابه.. كان يحتقر العامة وهم مادة نضاله المفترضة. وانظر إلى الكيفية التي تشكل فها الصراعات والرغبات الفردية/ اللا شعورية ما هو سياسي عام يؤمن به ويدعو إليه بحماسة ولكنه يتشكل بصورة ضدية – Reaction Formation – فيحلّل بصوت عالٍ أحد الأسباب الحقيقية الكامنة وراء قيام الحرب على العراق بأنها «لإبادة جزء متنام من السكان العرب لا يطبق سياسات تحديد النسل ولا يخضع للتعبئة والشروط الأمريكية. إن النمو السكاني في دول العالم الثالث يؤدي إلى زيادة القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية لتلك الدول، وهذا يهدّد انسياب المواد الخام لأمريكا والغرب، خاصة أن تلك الزيادة تكون مرتبطة دائماً بالاتجاه نحو تأميم الاستثمارات الأمريكية..إلخ» وكلنا نعرف أن الزيادة السكانية في العالم الثالث أصبحت عبئاً على اقتصاديات تلك الدول وأن الحروب صارت تجري عن بعد – بصواريخ عابرة للقارات تطلق من البحار والميحطات..إلخ – ومع ذلك لنلاحظ انعكاس هذا المبدأ النظري على سلوكه الحياتي. إنه يطلب من زوجته (وداد) أن تربي الطيور وأن لا تفكر بإنجاب الأطفال وهو خلاف ما يعلنه كـ “مناضل” !! أما كمدير عام فقد حوّل غرفته وسلطته في الدائرة إلى مصيدة لاصطياد العشيقات. و في مجال العلاقات العاطفية كانت هدى أول من شخّص نرجسيته المرضية في هذا الإطار . نرجسيّة ممزوجة بسلوك هستيري استعراضي «بدأ السيّد مصعب بارتداء الثياب الزاهية الألوان، وبأشكال سريالية، وكلما كان يرتديها كان يزداد ضجيجاً وزهواً، هل كان يريد مواجهة سنّي بتلك الثياب؟ أم كان يودّ إيصال حيوته للأخريات… ليقول: «أنا الصانع وهذه هباتي.. وهؤلاء قططي يتقافزن على الشرفات.. هن في قبضتي.. ولتلك الراكعة وهي تغصّ بالدمع، إنني الإمبراطور»-ص52- مع كل هذه المساوئ وهدى تراه حلماً وهدف حياة كاملة.. تحبه إلى حدّ أن تحاول الانتحار ثلاث مرّات بسبب سلوكه السادي تجاهها . كان يقصّ عليها – وهي جلسات تعذيب في واقعها – غزواته الغرامية مع عشيقاته- معلنة له
: «كم أحبّ أن أبادلك الحبّ عن طريق نقل الدم، دمي إليك» – ص101 –
كانت تردّد دائماً :
«لا يجوز انتصار أي أمريء عليك – يا مصعب – لا امرأة ولا حزب، لا زوجة ولا عشيقة، لا وظيفة ولا سلطان» – ص 84 – . «تلقائياً أفهمك، أصير جزءاً منك من ذكورتك وأقنعتك وعجرفتك، أمّا ذكاؤك فهنا أعترف لك أنه مصدر الخطر – ص94 – فمن أي مادة ” أولية ” شكلت هدى تلك الصورة المثالية المتعالية لمصعب؟ إنه يعلن حتى عن ممارساته المثلية :
«سرعان ما أُصاب بالسأم من النساء فأنتقل إلى الغلمان الذين لم يصنعوا ماضياً لهم، والذين كانوا يبدون نوعاً من التخبط والتشوّش يمكنني من بلوغ أعلى درجات الشفافية واللّذة» – ص73 –
ثم ينتقل مباشرة من المثلية إلى الحديث عن القومية العربية وبعث الأمّة اللذين يمنحانه العزيمة!! ومن جديد يعود التساؤل الملتهب ليفرض نفسه : من أي مادة أولية تشكلت صورة مصعب المثالية التي سحرت لبّ هدى وأوصلتها إلى هذه الدرجة المغيبة من الولع المميت؟
قد يبدو مفارقاً لطريقة التحليل التقليدي أن نقول إن تلك المادة الأولية / العجينة قائمة في اللاّ شعور / لاشعور هدى . إنّها المادة التي تصاغ منها صورة الأب الرمزية التي يتسامى بها طموحنا التعويضي إلى مرتبة إله بعد سلسلة من النقلات المضلّلة التي يوغل الإبداع – إبداع عالية ممدوح الآسر – في تعقيد جسامة تضليلها الأخاذة . قد تكون هامة الملاحظة التي ذكرتها هدى في رسالتها الأولى إلى بثينة، ملاحظة عن أبي هدى من المؤكد أن لها دوراً في تصميم صورة ” رجل المستقبل ” التي تختزن في أعماق كلّ فتاة مثلما تشتق صورة «فتاة المستقبل» التي تختزن في أعماق كل فتى من صورة موضوع الحب الأثير – الأم . تشتق عادة إما بالمطابقة أو المناقضة. قالت هدى لبثينة وهي تكتب لها من المطار حيث تنتظر مصعباً وزوجته :
«بثينة هذا حصاد الساعات الأولى، قبل اقتراب الجميل، كلا، ليس السيّد جميل أبي، الذي أقعده السكر والخبال والطيبة الحمقاء ولم يقعده المرض من الزواج بأربع ، هو الآخر كمصعب . ألا ترين أن أبي يستحق بعض الثناء، بل أكثر من عشر مرّات عن باقي أسياد العائلة ؟ جميل أبي هو الآخر كمصعب ، أمّا الجمال فها هو يردّد: يبدو أقل جمالاً من قبل» – ص16 – .
من الممكن أن نحتمل انغراس تلك الصورة المفرطة في الاستحواذ في وجدان الطفولة الهشّ . قد تشعل مزواجية الأب غيرة عميقة لكنه تستثير – في طبقة أعمق من الاحتدام النفسي – «أملاً» في نفس البنت في سهولة منال الأنموذج الذي أصبح متاحاً لأنه قام بتكثير الولاءات لتحل محل الولاء الواحد للأمومة المنافسة. هذا ليس شرطاً أساسياً فقد تتشكل الصورة الذكورية (الأنموذجية) على ركائز هي نقيض سمات الأبوة المشخصة فعلياً. تقول هدى لمصعب : «أنت أحد أعظم من أنجبته البشرية». إن اختفاء القدرة الكلية Omnipoternce – هو من نتاجات الموقف الطفلي المؤلّه لسطوة الأب . فالأب هو – بالنسبة للاشعور البنت – هو أعظم من أنجبته البشرية وليس واحداً منها . وهو «الفهد الذي يريد العودة إلى الغابة».. اللورد البريطاني.. فارس القرن السابع عشر.. فارس من مرحلة ما قبل التاريخ.. إنهم هكذا منذ الطفولة، وما قبل التاريخ، ودون أن يدوّن ذلك في الكتب.. هكذا وجوه وفقاقيع لم تتشكل بفعل الضغط أو الكبت، أو الانحراف، أو بفعل تجارب الماضي. إنهم هكذا بفعل الطبيعة، والله، والألواح، والأوامر، وبلا وعي دقيق بطباعهم، نراهم فيشوشوننا بصرياً وجمالياً وروحياً، فلا نعود نعرف الطمأنينة لا بصحبتهم ولا في التواري عن طريقهم» – ص82 – قوّة واحدة فقط – نختزنها في لاشعورنا الطفلي – قادرة على تفتيتنا وإعادة تشكيلنا، إعادة خلقنا، قوّة تحيي وتميت. هو الذي «يتبرعم» و«يتفرع» و«يتورم» في الجذور :
«ليس هو العضو الجديد في جسدي، ولا القطرة التي تريد التشكل وعلى مهل على سمائي. لا، عليّ اتخاذ شكله، عليّ الفوحان به وأنا بجواره، وأنا معه. وعليه إحالتي إلى تفاصيل متناهية في الصغر. وإعادة تجميعي وانتزاع ما يكسوني من حشائش متوحشة» – ص82 – .
إنّ السمّ المحارمي الذي تنفثه أفعى اللاّشعور في شرايين الحركة الحبية اللاواعية لهدى هو واحد من أهم الأسباب التي جعلت علاقتها بمصعب تكون – في نهايات «نضجها» – أكثر تألقاً وتأججاً – وحسب شاهد شبه محايد هو ابنهما «مازن» – حين يتم تواصلهما عبر التلفون.. حب المحارم هو حبّ عن بعد.. بعد يتمادى في أبعاده.. حتى ليدفع بالطالب /الضحية إلى أن يتوه هارباً في عواصم الدنيا – وهو حال هدى – يقترب فتشتعل مشاعر الإثم التي لا تمنع الالتحام الأولي الحامي والإشباع المتأجج عبر تصافق مع سلطة الأنا الأعلى المراقبة المعاقبة التي تغيّب انتباهتها تحت أغطية إرادة التحمل ولعبة «الإنقاذ» المقابل . لكن سلامة هذا التحليل وسلاستها سوف تُجهض ، إذا لم نضع في حسابنا النقدي التحليلي الأنوثة المشروخة لهدى وميولها المثلية تجاه بثينة وصبيحة ودفعاتها المحارمية تجاه ابنها «مازن»… ولهذا وقفة تحليلية تحمل الكثير من التحدي.
عندما تقول هدى لبثينة إن «هذا الورق هو أول وآخر المنافي» (ص50) فإنها تحيلنا من جديد إلى ظاهرة النجاح في «التواصل عن بعد» في الإفصاح المقتدر والصريح على الورقة في الوقت الذي لا تستطيع فيه هدى أو مصعب التواصل الخلاق والمسترخي في اللقاءات المباشرة . ولنتذكر أنهما كانا يتفاهمان بصورة جيّدة عبر صراع الإقدام والإحجام في علاقة حب مدّمرة . تقول هدى :
«هذا مصعب أمامي، الذي زيّن لي شجرة الحياة بالأشواك.. أما الحقائق فها هو يردّد: (إنها في الأوراق) ينبئ كم أن الحياة بين النساء والرجال شفيفة ودافئة في الكرّاسات، أمّا ذلك العالم الحيّ المشترك، الحامي والفريد الذي كوّناه يوماً، فما كان إلاّ تمويهاً» – ص78- وهذه عادة «المعصوبين» الذين يمتهنون الخسارات وتعذيب الذات وجلدها . وها هما هدى ومصعب لا يتحدثان بأيّ شيء حين يخرج مازن ووداد ويبقيان وحدهما في البيت . كان حوارهما عبارة عن مونولوج داخلي يراجع فيه كل منهما خساراته مع الآخر. جلسا وبينهما حزم الأوراق مربوطة بشريط فضي. حتى مصعب كان يكتب كل شيء لها ويحتفظ به لهدى في صيغة اعترافات . وحتى عندما كانا يعيشان في بيت واحد كان كل منهما يعيش في غرفة منفصلة . كانا وهما متجاورين في حالة حرب دائمة لا يهدأ أوارها . طرف يوجه الألم وآخر يستقبله ليهضمه ويتمثله ويعيد تصديره إلى الطرف الأول الذي يستقبله بطريقته .. وهكذا. يقول مصعب :
«.. سبع سنين وأنا لا أعرف إلاّ ذلك الهوى والسعير معاً . شجار وموت وخبال، لكننا بعد ذلك يتكئ أحدنا على الآخر وندري أننا نشعر بلذة أشد عندما يطرد أحدنا الآخر من روحه وبالتالي نعود أشدّ وأعنف. كانت مسرورة أن تتحدث عن نفسها عني ، وكنت أستطيع نطق اسمها مجدداً حتى لو قطعته من الحقد عليها، فكانت تكتب إليّ بعد أن تغادرني : ها أنا أتمرّد عليك يا سيدي وأفرّ من فردوسك. إن الطغاة يزرعون الحرية والتمرد داخل الضحية من حيث لا يدرون » – ص105 –.
لكن هدى تتناسى الحقيقة المكملة وهي أن الضحية تبحث أحياناً عن جلادها .. وتلتحم به وتستثيره ، حتى إذا أوقع بها الإيلام المطلوب وتسلمت جرعة العذاب الكافية ، فكت الاشتباك منهكة لكن مشبعة . تبتعد لتمارس عدوانها الخاص وبطريقتها الخاصة وهي أن تحرم الجلاد من الضحية .. فيتصاعد غليان الإحباط في أعماق الأول.. ويتعذب فعلاً من ألم الخواء الذي يعصف بحياته.. ولكن تراكم شحنات العدوان يعدّه – في الواقع – لمجابهة التحام جديدة.. وهكذا. ولكن هذا لا يعني أننا أمام طرفين تاميّ النقاوة من ناحية الشحنات المرسلة – السادية – والشحنات المستقبلة – المازوخية –. إننا أمام «تركيب» جديد – هيغلي نفسي إذا جاز التعبير – كما قلنا سابقاً – والتركيب الجديد سيكون له فعل راجع في تشكيل نتاج التحام الدوافع السابقة. إن الطرفين يقفان الآن وسط مجال نفسي جديد على كليهما لكنه يمارس تأثيراته الحاكمة في كل منهما. إنه ينمي مواضع استقبال من جهة المرسل ونقاط إرسال في سواتر الذات المستقبلة . فالقول إنّ (مصعب) كان سادياً ومولغاً في إيلام هدى لا يعني أنه لم يمر بلحظات كان يبكي فيها حين تخبره هدى أن الانفصال والطلاق هو خيارها النهائي والمناسب لحسم مصير علاقتهما المضطربة . وينطبق هذا الأمر على هدى أيضاً فلم تكن تلك (الضحية) العزلاء الكسيرة الجناح . كانت بدورها – في جوانب من سلوكها تجاه مصعب – نمرة صعبة الترويض وقادرة على اصطناع وتوجيه الأذى ضد الطرف الآخر. ولعل أفضل وصف لحالة «التركيب» الصراعي الجديد هو الحيرة التي يبديها (مازن) الشاهد /الضحية/ أيضاً من علاقة أمه وأبيه العاصفة :
«لم أعرف حتى اللحظة ما يفرقهما أصلاً ؟ هل لأنهما متماثلان في القوة والخذلان، في التسلط والأنانية، في الحنان والمرارة، في النذالة والشرف ولم أعد أدري ولا أفهم، وكلما حاولا، كلّ من جانبه، إفهامي، بدت المسألة، أشد تعقيداً، فتركت الأمور كما هي» -ص47.
تصيب الدهشة أي مراقب يحاول رصد طبيعة العلاقة المدّوخة بين الطرفين لأنه لن يتعامل مع وجهين متقابلين حادّين قاطعين . نحن هنا أمام «الوجه الثالث للعملة» وهو الوصف الأكثر دقّة . وقد انعكست دوامة هذه العلاقة الشائكة بين هدى ومصعب على طبيعة المفردات التي تستخدمها الكاتبة لوصف تلك الصلة والتي تنثرها بين ثنايا أفكار وحوارات ومونولوجات شخوص روايتها ، فهي مفردات ذات مضامين «حربية». فقد تكاثرت ألفاظ الشظايا، التفجيرات، الدم، البتر، العدو، فرق المشاة، الاشتباك، طلقات النار، تقول هدى : «إنّ هذا التلاقي في البيوت لا يتم دائماً عبر الحبّ، بل على العكس، إن ذلك سيكون أجمل عبر الحرب.. حانت ساعة الوصول إلى الثكنة . ها نحن الأربعة نبدو كصف من جيش لا نظامي» – ص37 –.
ويقول مازن :
«أحتمي من طلقات النار التي يطلقانها على بعضهما ، كأنهما في أرض الأعداء عدوان يبتدعان كل ثانية أساليب في الإخفاء والتغطية. ينظمان طرق المواجهة، ويلتقطان النفس للجولة القادمة. هي الحرب في الداخل، أما فرق المشاة فإنها.. تتصدر الواجهة» – ص 46 – وراجع ص82، 83، 86، 106، 112، – وغيرها . إنّ الأمر الذي جعل علاقة هدى بمصعب هادرة متذبذبة ومربكة ومضطربة هو أنوثة هدى المشروخة وخصوصاً اختلال هويتها الجنسية الذي انعكس على دورها الجنسي . ولا يتمثل هذا الشرخ في إعلان مصعب لها وبصورة تكشف عدم قدرته على الإمساك بـ «هوية» الشريك وذلك حين يهجس أمامها بتردّد أول الأمر أن لديها رجولة لا يدري أين تكمن وأن أنوثتها لا تعود إلى الجنس إطلاقاً بل إلى اتقاد المواهب والشخصية العنود.. وهذا الإفصاح وغيره الذي ترسمه الكاتبة يعبّر عن قلقها هي نفسها ووقوعها في شباك مصيدة صراع البطلة (هدى) ، لأن الشخصية العنود – مثلاً – لا تضفي أي مسحة أنثوية على الزوجة في نظر الزوج – الذي يجب أن لا ننسى ميوله المثلية – الذي كان يردّد بعد المشاجرات والنكد :
«أنت قطعت عليّ نظام الجنس السليم معك . لعلك خلقت رجلاً، لعلّك تتسلّين بكونك أنثى. ولعل جسدك يخفي تحت الثياب جميع الحشرجات. وبفضل هذا فأنا لا أستطيع لمسك ثانية. أنا لا أعرفك. من أنت؟ لم أكن أقترب منك إلاّ أتعبني ذلك الشعور. كأنك تحملين رشاشاً تريدين إطلاق رصاصه كلّه على رأسي وبدني وأعضائي» – ص80 –.
وليس هذا حسب وهو ما يؤكده قولها إنها لم تصل الذروة معه ولم ينتظرها ليصلا معاً أبداً حيث تكون البرودة من نتاج الأنوثة المشروخة ، وليس لأنها تعلن عن دهشتها لأن مصعباً كان يقفل عينيه وهو يقبلها في حين أنها لم تنـزع بصرها عنه وهو يقبلها ، وهو سلوك مناور يقلب طبيعة الاستثارة السمعية للمرأة ويجعلها بصرية ذكورية من ناحية ، ويجعل دورها الاستقبالي للاختراق الفموي – والقبلة عملية جنسية مصغرة – راصداً ومبادراً من ناحية أخرى ، ولكن لأنها ” أدركت ” محنة الأنوثة المشروخة منذ وقت مبكر من حياتها . كانت عمتها تقول لها :
«أنت مثل الرجل. انظري إلى مشيتك وألوان قمصانك، لا أدري من سيروق له الزواج بك؟» – ص 132 –.
وهي نفسها تتحدث عن طبيعتها الغلامية وهيئتها الوقحة وقدرتها على توجيه العدوان وضرب أي أحد، ولعل من أكثر متنفسات التعبير الماكرة عن الصراعات والرغبات الدفينة التي يلجأ إليها اللاّشعور هي استخدام صيغة «لو» حين يمارس الفرد ما يتمناه من خلال مزاولة ” تمني التمني ” . تقول هدى لبثينة :
«لو أنني رجل سأكونه حقاً. لا أبالغ في فحولتي ولا أرتاب في رغباتي . عليّ الاسترسال في صداقة جسدي وكشف الفجوات التي تحيط به، وأذرع المدينة ذهاباً وإياباً وأنا غارق في التأمل : هل أنا رجل حقاً ؟ أم أنّ لدي ميولاً مثلية ؟ » – ص 132 –.
وفي هذا الموضع، من بين عشرات المواضع الأخرى ، تكشف الأسلوبية المتضادة التي تجهض نتائجها مقدماتها ، وتشوش تساؤلاتها المهتزة يقين التمنيات والوقائع على حدّ سواء ، التحام الكاتبة المبدعة ببطلتها في «محنتهما» المشتركة . ولا يوجد غير هذه الطريق : طريق يكون فيها الشخوص في العمل الإبداعي قطعاً حية من لاشعور وحياة المبدع وذاته الفعلية أو المتخيلة ، من وسيلة لتحقيق مصداقية الكاتب ( ولا أدري وفق أي مبرر يموت المؤلف وبمن يرتبط شخوص أي نص ومن أيّ طينة يتشكّلون إن لم تكن طينة لاشعور المبدع الساخنة الخلاقة ؟ ) ولا ينبثق التساؤل الإنكاري الأخير: هل أنا رجل حقاً ؟ أم أنّ لديّ ميولاً مثلية ؟ من «فراغ» الذهن، بل هو ينطلق حييّاً من حقيقة ممتلئة في الداخل تتململ تحت قبضة الكبت . وإذا كان التعبير الصارخ عن الميول المثلية يتجسد في علاقة هدى بصبيحة، تلك العلاقة التي تقدّمها لنا الكاتبة – من خلال ذكريات وأحاديث هدى التي تطرح بصورة «بعدية» حيث تتكفل «المسافة الزمنية» بالكثير من التحريف لأن هدى تنقل لنا عبر «مصفاة» كبوتاتها ومقاوماتها لمحات تفصيلية عن اندفاعات صاحبتها الأثيرة «صبيحة» ، تلك اللمحات التي سنجد – مع عناء الربط والتحليل ولعبة «القلب» التي هي تقنية حلمية أصلاً تتكفل بإشباع الرغبة الدفينة – أنها وفي كثير من الأحيان «مُسقطة» من الراوية / الناقلة بطريقة تقترب كثيراً من لعبة تاريخ الوقائع التي ينقلها مؤرخ عن «مصدر» ميت أو مغيّب، ولكي نكشف مقدار صلة – أو «تلاعب» – الناقل، علينا أن نجمع القرائن على توفر «مصلحة نفسية» له في ما ينقله إلينا من تلك الذكريات والوقائع. كانت صبيحة – حسب ما تنقله لنا هدى – تندفع باستماتة نحو الأخيرة كموضوع حبّ برغم أنها تمارس الجنس مع زوجها مصعب في الوقت نفسه ، وكان الثلاثة يعرفون ما يجري بينهم. تقول صبيحة لهدى : «أحبّك يا هدى.. أحبّك أنت.. كل شيء سدى سواك. كلّ مضاجعة معه ومنذ البداية كانت باطنياً معك لأنه سبق أن نام معك.. وحين يضمني بذارعيه.. أستعيدك وأنا بين ذراعيه.. إذا قبلته فلأن شفتيه بدأتا بك» – ص142 –.
هذا الولع الصريح المدوّي تقابله استجابات «شعرية» حسيّة مناورة من قبل هدى برغم أنها توصل تحت بصيرة المحلل النفسي الثاقبة إلى النتيجة نفسها حيث تقول لبثينة بأن عرقهما – هي وصبيحة – كان يسيح ويكشفهما وهما تقفان في الممر :
«في تلك اللحظة لم يعد جسدها هو الذي ينقشع أمامي، زادت سمرتها وبدا من تحت الجلد شريانها والدم سينبثق منه، يتماوج، حتى إ نه كان على وشك أن يحدثني وبصوت مسموع» ص143.
ولكن إذا كان التحام الرجل بالمرأة اختراقي ، فإن التحام الجسدين الأنثويين هو التحام نفوذي – احتضاني ، وهذا ما يعبر عنه انقشاع الجسد وتماوج الدم في الشريان.. وتتكرر مثل هذه التوريات المضلّلة في تعبيرات هدى عن علاقتها بصبيحة عدا إشارة واحدة مباشرة قالت فيها :
«صبيحة كانت تقدم لحمها الحرّ النهم الشره والشهواني لنا ، أنا ومصعب» ص144.
ووسط فقرتين تضيّعان انتباهة المتلقي، في السابقة منهما تتحدث عن الرجال الذين يقدمون لها سندويشات اللحم البارد .. وفي اللاحقة منهما تتحدث عن تنامي نفوذ مصعب وكيف يمكننا ردم خيانة الأعصاب بالنقود والنفوذ وتختمها باستنتاج مناقض لما قالته عن موقفها من صبيحة «صبيحة لم تحبّ أحداً منّا لا مجتمعين ولا منفردين» ص144. أي أنها تشوش توقعاتنا وتقوّض ما نؤسّسه على «تواريخها» من فرضيات حول توجهاتها الحسيّة . لكن مراجعة ما هو مستتر في رسائل هدى إلى بثينة تكشف – ولو جزئياً – عن أصالة دفعاتها المثلية ليس لأن الأخيرة كانت تردد لها في رسائلها أن علاقتها بها ليست علاقة امرأة بامرأة ولكنها «حبّ من نوع خاص» (ص9) ، ولكن من خلال كون الخطابات إغواء «تطبيقي» في كمال العلاقة المثلية واحتداماتها حيث تكون اندفاعة صبيحة الحارقة تجاه هدى هي التعبير الظاهر لما يمور من دوافع في أعماق هدى تجاه بثينة، وفي ما تعرضه من علاقات أمام بثينة تتخذ فيه دور «المفعول به» الذي هو – مع صبيحة – تشكيل معاكس لدور «الفاعل» المحتبس داخلها نحو بثينة إمعاناً في الإغواء والجذب ، في الوقت الذي يكون مع مصعب دور الضحية المخلصة المغدورة إمعاناً في تنفير بثينة من هواجس الرغبة في الجنس المخالف.. وتحكم هدى رسم أبعاد هذا المخطط – اللاشعوري في جانبه الأكبر – في فصل «الطغاة الصغار» من ص 132 إلى ص 148 – الذي تبدأه بالإشارات الصريحة إلى ميولها المثلية وتشكيكها في هويتها الجنسية، ثم الحديث المستفيض عن الأصحاب المشتركين من الذكور من الشعراء والكتاب والمسرحيين ، حديث يسفّه الدور الذكوري – المتنفج ، فهم معقدون بطريقة تبعث على الضحك ، يفضلون إشهار أعضائهم الجنسية عند أقل استثارة، مجرد القابلية للانتعاظ تدفعهم إلى نشدان السلطة . وحين تتحدث عن دهشتها في الكيفية التي تتكامل بهجة هؤلاء وغبطتهم وهم يضغطون لحم صبي عابر أو غلام طائش ، تنتقل إلى القول بأن الجنس إحدى أشدّ المواهب إنسانية ويكون أنموذجها التطبيقي الناجح والذي تسرف في تصوير استماتته في إشباع الجسد هو : صبيحة ، والتي تعلن أنها تلتحم بهدى حتى لو كانت تضاجع مصعباً ، وأن الثلاثة كانوا يعرفون ما يجري بينهم، أي أن مثلثاً علائقياً يمكن أن يُبنى بصور موازية أخرى ، وكل هذا الطرق المثابر المتكرر قادر على ترقيق جدار دفاعات الهدف المستتر: بثينة ويفك لحام مقاوماته . وإذا آمنا بوجود حتمية لاشعورية تجعل ، في جانب منها ، لكل فعل مهما كان بسيطاً معنى يمرّر رغبة مكبوتة ، فيمكننا أن نقف أمام الصياغات اللغوية التي تخاطب بها هدى بثينة وتربط – من «غير قصد» – اسمها بوصف الـ«جميل» ولا تستثار في مخزوننا المعرفي غير الصلة العذرية المعطلة والكاسحة لجميل بثينة كأن تقول :
«بثينة.. جميل الوقوع في الخطأ» وغير ذلك. وما دمنا في مجال القصدية اللاشعورية وطبيعتها الحتمية فليس أمراً مجرداً من المعنى تلك الإشارات التي تبدو بسيطة وساذجة والتي ذكرتها هدى في سياق سردها الروائي الطويل . كأن تقول إن مصعب أضاع خاتم زواجهما في إحدى الرحلات وإنها توجست من ذلك» (ص78). فهناك الكثير من الأفعال التي تبدو عشوائية وعفوية ولا تسترعي الإنتباه ، في حين أن ربطها بقرائن من التاريخ الشخصي للفرد المعني والظروف الموصلة إلى الحدث والتي تحيط به و (المصلحة النفسية) التي تُحل من خلالها الصراعات الدفينة ، يجعلها علامات منذرة بأشد الانهيارات في العلاقات الإنسانية – وبالمناسبة فقد بعث معلم فينيا ذات مرة برسالة إلى خطيبته يسألها فيها : هل فكرت في الأسبوع الماضي وفي يوم محدّد منه بفسخ خطبتهما ، وذلك لأن خاتم الخطوبة سقط من إصبعه في المغسلة في ذلك اليوم !! تطيّر وخرافات في نظر الكثيرين . لكن لماذا كانت هدى تطهو طعام الكلبة (يبكي) ولا تنساه ، في حين أنها كانت تحرق طعام مصعب رغم أن وداد تشهد على أن هدى من أبدع الطاهيات . ولا نستطيع – ضمن محاولات الإمساك بتمظهرات الأنوثة المشروخة – أن نغفل تلك «اللمسات» المحارميّة التي تنبث بحياء، وفي مواضع قليلة بين هدى وابنها مازن الذي يتحدث عنها كثيراً باسمها المجرد «هدى» وليس «أمي» . ولعل هذا يأتي ضمن التماعات «ألعاب اللاشعور الماكرة» حيث يتخفف الفرد في بعض المناسبات من القيود التقليدية التي تحجم العلاقات بين الأطراف المحرّمة منطلقاً – في بادرة تستثمر مشاعر الطرافة والألفة في حين يتلمظ اللاشعور من وراء ستار براءة الحميمية كما هو الحال حين يقول الزوج لزوجته : أنت أمّي وابنتي ، فترد الزوجة أنت أبي وابني يا حبيبي . وفي موضع أي موضع جدّي آخر تثير هذه التعبيرات القلق بفعل استفزازها المكبوت من الدوافع الأوديبية . وهو – أي مازن _ يبرّر ذلك بالقول :
«هل مازالت هدى تحب مصعباً ؟ أناديها غالباً باسمها منذ كنت صغيراً . فأشعر إذا قلت لها أمي بأني سأكون من أتباعها » (ص108).
والخروج من إسار تبعية الأم يعني المضاهاة العلائقية بين ندّين : ذكوري رجولي وأنثوي خارج التبعية الطفلية أو البنيوية. ومن جانبها تدخل هدى ساحة التعبير اللغوي (البريء) عن مشاعرها حين تقول له : «أنت الرجل الوحيد في حياتي الذي كلفني عذاباً ومالاً وارتحالاً من مكان إلى آخر للحاق به . أنت أقسى من أبيك، لأنك تحب بصورة باطنية» (ص109) .
ولولا السياق السردي الذي يشير إلى الصلة الأمومية بين هدى ومازن لظنّ المتلقي أنها تتحدث عن اقتراب عاشق يلتحم بها :
«عيناه كاملتان بالجمال المتقّد. ينـزل إلى جواري وبلا كلام يضمني إلى صدره» (ص57).
وتتكفل ألعاب اللغة بتضليلنا حيث تلتبس الرغبات تحت غطاء الحرمان والحيف من طرف ، والنداء المستغيث الهادئ ، بالطرف المقابل من أطراف المثلث الأوديبي . فنحو الأب/ الزوج هناك مفردات محايدة إشارية اسمية ساكنة ، أما نحو الابن فهناك دعوة لضمير غائب يُسمعها فعل : فليضمني . تقول هدى بألم :
«يا إلهي فلتذهب بي الآن، فهما بجواري، ذلك السيد، رئيسي، رئيس عملي، رئيس نفسي، وذلك الابن، فليضمني من غير مشقة» (ص64).
وتساهم تخييلات الإبن في توثيق عرى جوانب الصورة المحارميّة، المفككة بفعل لعب متضامن في نتائجة بين السلطة الرقابية والرغبات المكبوتة . فمازن يتصوّر نفسيهما : أباه وهو ، منتمين إلى إحدى العصابات . الأب في دور رئيس لتلك العصابة ، لكنه غير قادر على لعب هذا الدور فهو يتعب بسرعة ويسلّم الإبن مهمة قيادتها ، وبأقصى سرعة ، وهو – الأب – مهدّد بالعجز ويفتش في جيوبه عن حبوب القلب :
«أسنانه تفارقت قليلاً مع كآبة سن التقاعد» والإبن المنسل تحت جنح الليل منتشياً بتسلم قيادة العربة – وهي رمز معروف – من أبيه ، يعمّم مشاعر الإثم – الجريمة الأوديبية هي الوحيدة التي نعاقب عليها رغم أننا لم نقم بها فعلياً – فيتصور نهاية لحلم يقظته – Day Dream – الفانتازي التنفيسي :
«نحن في طريقنا إلى المديرية العامة لتسليم نفسينا عن جرائم لم نرتكبها يوماً. والجميع يدير رأسه مذهولاً وهو يسمعنا ويرانا. آه ما ألذ ذلك لو يحدث يوماً» (ص6).
إنّ الحلم الذي يوصف في التحليل النفسي بأنه الطريق الملوكي المفضي إلى قلعة اللاّشعور يثبت أصالته هنا كثريا كاشفة لكثير من الزوايا المظلمة في دواخل مازن . فالعودة مع أبيه – حلمياً – لتسليم نفسيهما إلى السلطة النفسية القضائية/الضمير/ الأنا الأعلى – بعد أن ضللاه ممثلاً بقوانين السير ونداءات الشرطة ، وضحكا وهزءا ، تعني الإدراك اللاواعي لإثم ما من ناحية ، وقدرية الانكشاف التي لا مفرّ منها من ناحية أخرى. لكن الشرطة تتعرف على وجه أبيه الذي يقوم بدور رئيس العصابة في الحلم. أي أن الأب «مجرم» معرّف وهو في الوقت الذي لا يخشى فيه الموت كما يقول مازن فإنه متهالك ضعيف القلب، مكتئب ومتقاعد وهذه الصورة المزدوجة هي في وجدان الإبن صورة موحّدة ومتكاملة للأب الذي يحمل سمات الإله الحاني المقتدر من جانب والخاصي الماحق الذي يستثير أمانيّ الموت – بالقلب أو غيره – والانحطاط من جانب آخر. وقد لا نقر مسألة تسليم الفرد نفسه إلى جهة معاقبة لجرائم لم يرتكبها في الواقع العملي، لكن هذا أمر قائم في الواقع النفسي. فليس غريباً أن يسبق الحساب الفعل ، ومن الطبيعي في عمل اللاشعور أن الأنا الأعلى – Superego يحاسب على النوايا مثلما يحاسب على الآثام المرتكبة فعلياً . فاعتباراً من لحظة نشوء (الأنا الأعلى – كما يقول معلم فيينا – يسقط قلق الإنسان من افتضاح أمره ويمّحى كلياً الفرق بين اقتراف الشر والتفكير فيه لأنه لا يمكن لشيء أن يبقى مخفياً عن الأنا الأعلى ولا حتى الأفكار والخواطر . ويبدي الضمير المزيد من الصرامة في سلوكه ويدلل على المزيد من الريبة والتشكك كلما اشتد الميل بصاحبه إلى الورع والتقوى، والمفارقة تكمن تحديداً في أن أولئك الذين سيدفع بهم ضميرهم إلى قطع أبعد شوط على طريق القداسة هم الذين سيتهمون أنفسهم في خاتمة المطاف ، بأنهم كبار الخطاة وبذلك نجد الفضيلة نفسها وقد حُرمت من قسم من المكافآت الموعودة بها ، لأن الأنا الطيّع والزاهد لا يتمتع بثقة مرشده». ( راجع الطوطم والحرام لسيمجوند فرويد – ترجمة جورج طرابيشي ) ولذلك فمن الصعب أن تراود مازن أفكار محرمة صارخة ، لكن من اليسير أن تلوب مثل هذه الأفكار في أعماقه وينعكس هيمانها في صورة تذبذبات سلوكية وحيرة في الاختيار وتناوب موجات الولاء بين الأبوين وتساؤلات حتى عن الهوية الشخصية وعن موضع الفرد في هذا العالم المتضارب. ومن الأمور المبكرة في مسار نموه النفسي والتي شكلت الأساس المهتز الذي بنيت عليه حياته المضطربة هو إحساسه أن أبويه قد (ألقياه) في المدارس الداخلية في بيروت في العشر سنوات الأولى من عمره.. كان يشعر بانقطاع جذوره عن مدينته بغداد / الأم… وتتصاعد أحاسيسه بالغربة عن ذاته وعمّا حوله في العشر سنوات الثانية حين تنقل بين خمس دول ، وعانى من التعامل مع خمسة مناهج دراسية.. ورغم أنه أكمل دراسته الهندسية متجاوزاً كل تلك الصعوبات الجسيمة إلاّ أن تفوقه العملي والنظري لم يشفع له في أن يحتضنه المجتمع الجديد الذي قام بطرده من الشركة التي يعمل بها في بريطانيا مع بدء العدوان على العراق ليلة 16/17كانون الثاني «وكأننا كنا نحن الذين نهاجم بريطانيا ، ونحن الذين نقصف بالصواريخ والراجمات مدنهم وما عليّ إلاّ الاعتذار» (ص 170) .
كان ينتحب وهو يشاهد كيف يذبح أهله ووطنه.. تتراكم عذابات ما هو عام فوق ما هو فردي إلى حدّ الاختناق.. إنه يردّد دائماً : «لا أعرف إلى أين أنتمي؟».. وأن لا جذر راسخاً له .. «أنا أشبه حقيبة سفر» (ص121). وقد تأسس كل ذلك على محنة التمزق الأسري… فقد انفصل أبواه وهو مراهق وها هما يعيشان حالة حرب دائمة وشجارات متواصلة وهو راشد بالغ ، وهو وسطهما تتقاذفه لعبة الولاءات بين أب متسلط يتمثل حتى في كلمات مازن كما يقول الأخير ، وبين «أم» لم يشبع من أمومتها لأنها كانت تحبه كما لو كان صديقاً لا إبناً . بين أب كان يصعد به إلى مستوى التأليه والتصنيمم ويراه مقاتلاً حقيقياً وعصياً عن الموت في حين تسحبه إلى أرض الخيبة حقيقة أن الأب وهو في الخامسة والستين الآن كان مجمعاً للأمراض، ومع كل ما يعلنه من مشاعر الإعجاب بل الانبهار بهذا الأنموذج المقتدر، تأبى حفزات العدوان إلاّ أن تخرج أعناقها متسترة بألعاب السرد التي تخفّف الاستفزاز الذي تستثيره في أعماق الأب الشعور بقرب «الإنقلاب» الذي يحيكه الإبن لخلع الأب وإلغاء سلطته :
«كان رأس أبي قريب الشبه من رأس ستالين . قلت له: لا تغضب يا والدي..لكن جفنك الأيمن بدأ يتهدل قليلا ..كم أتمنى تصوير ستالين يا والدي ..كانت نظراته ذات خطورة مخيفة ولا يسمح بالضحك مطلقاً. لا أحد في الحاشية يضحك، لأنه إذا تجاسر أحد على الضحك فإنه يغامر بتهديم شيء ما. غير أنه قد يكون لهؤلاء الطغاة، مثلك يا أبي، روح السخرية التي لا تنفصل عن ممارسة السلطة، لكنهم لا يتوفرون على الضحك الذي يعتبر فوضوياً… استفز أبي وهو يسمعني» (ص167) .
يُستفز مصعب الأب من رغبة إبنه في تصوير طاغية ميت وتشبيهه به فهي – على مستوى اللاشعور – تعبير عن محاولة لاواعية يقوم بها الإبن لقتل الأب مجازياً (والرغبة تساوي الفعل في اللاشعور كما قلنا ، وفي البدء كان الفعل لا الكلمة في اللاشعور كما يقول فرويد .. ويذكرنا هذا بالإمبراطور الروماني الذي نفذ حكم الإعدام بأحد أتباعه لأن هذا الفرد كان قد رأى في منامه أنه أمر بقطع رأس العاهل ، والإمبراطور لم يكن مخطئا ، إذ كان يعتقد أن من يرى مثل هذه الأحلام يمكنه ، خلال اليقظة ، أن يغذّي أفكارا مماثلة ، ولهذا السبب نقول عن شيء لا يمكنه أن يجد مكانا في حياتنا : لن أتخيله حتى في الحلم – راجع ” مراجع الشخصية ” – ترجمة وجيه أسعد ) . ولا يُربك هذا الاستنتاج قول الأب في تداعيات سابقة أنه لم تكن تعنيه تحليلات علم النفس كثيراً. «فكنت أضع بعض الخطوط الحمراء تحت بعض الأفكار: إنّ بعض الحروب باللاوعي هي محاولة لاواعية لقتل الآباء» (ص99) .
هذا التداعي الذي تحدّث بعده الأب – بانفصال عاطفي – عن انتحار ابنه رياض بمنشار قطع الخبز وتهشّم جمجمة ابنه الثاني ” سمير ” في حادث سير «وقد يكون هذا انتحار غير مباشر» والغريب هو أنه يصف ولديه بـ (السيد رياض) و(السيد سمير) !!.. كما لا يلغي استنتاجنا الزعقة الشديدة التي أطلقها في وجه ” وداد ” عندما فكرت بإنجاب طفل :
«نترت بها : أن لا تلفظ كلمة طفل. وليد آخر، أكذوبة، مذلّة ، سفلس، أيها الآباء ما أنتم إلا حفّارو مقابر» (ص105) .
هل كانت علاقة مصعب بولديه التي من المؤكد أنّ لها دوراً هاماً – مهما كان صغيراً، ويعكسه حديثه عن رحيلهما – في ” تبخرهما ” كما يقول ، هي جزء من «موقف أوديبي مضاد» تذكرنا به الأساطير القديمة والمسرحية / الدرس ؛ «أوديب ملكاً» . فبمجرد أن يخبر الكهنة العرافون الملك الأب بأنه إذا رُزق بابن فإن هذا الابن سيقتله ويغتصب عرشه ويتزوج من أمه ، نجد الملك يقوم بمحاولة قتل الابن عن طريق رميه وهو رضيع عاجز في الغابات البعيدة ، دون أن تتوفر أي قرينة تؤيد ما قاله العرّافون عن الوليد المقبل. إن سرعة التصديق هذه والفعل الأوديببي المضاد ، كما أسميته ، من قبل الأب تعكس «قدرية» الصراع الأوديببي التي تعني «قتل الأب» أو «قتل الابن» على مسرح اللاّشعور دون تسويات أو تصافق . وقد يرى القرّاء أن ذكريات مازن عن حوادث موت وانتحار أشخاص معينين في حياتهم العائلية كانت مقحمة وليست ذات وظيفة نفسية. لقد تحدث مازن عن الكيفية التي كان أبواه ينقلونه من دار إلى دار ومن عاصمة إلى أخرى.. ليصل إلى الحديث عن الموت : مقتل السيدة بلقيس في بيروت وهي التي كانت هدى تشعر أنها بخير مادامت بلقيس بخير .. ثم موت السيدة المسنّة بين يدي أمّه التي كانت تبحث عن صليب السيدة الذهبي لتقربه من شفتيها قبل أن تلفظ أنفاسها.. وأخيراً انتحار (إبراهيم) صديق والديه وأحد الشيوعيين الفارين إلى بيروت بعد أن أعلن أنه نفض يديه من النضال والكفاح.. ووسط هذه الاستعادات يفصح مازن عما يجول في داخله كردود أفعال :
«ها هي القصص والحكايات الناقصة تتجمع وتتراجع في مخيلتي ولا يبقى بين يدي إلا ذلك الموت. موت أخوي وأصدقاء أمي وأبي. الموت الذي يقترب ويبتعد ببطء ، وكأني سأدخل في عداده، وأودع أحدهم للتو. الجميع رحلوا..» (ص183 – 184) .
لقد دهمته تلك الذكريات المشؤومة بعد أن ودّع أمه وأباه وزوجة أبيه وعاد وحيداً ليبدأ دورة عذاب ووحدة جديدة . يقول مازن في ختام الرواية :
«كيفما كان الحال لابدّ من قصّة ما ، تكريماً لشخص، لأشخاص، للوالدين، للوطن وللبلدة، للنخلة والبرتقالة، لأحد فصول العام، للموتى، موتى الحروب الخاصة والعامة. فهدفي في نهاية المطاف بسيط : «عمل ما يجب عمله في نطاق الممكن ومعاقبة الذات بشكل لا يرحم » .. أقود العربة ولا أعود إلى الطريق نفسها. أفتح فمي وأردد الأغنية الأخيرة ؛ أغنيتي التي صفق لها طلبة الصفوف المنتهية في يوم التخرج : كيفما كان الحال علينا بإيجاد قصّة ، فقد لا نلتقي ثانية.. و..» (ص191- 192) .
وإذا ربطنا الحلقات القليلة السابقة في سلسلة واحدة سيكون احتمال تحطيم مازن لذاته أمراً قابلاً للتوقع فهو نتاج بيئة عائلية تدميرية . وكان يلاحظ بدقة سلوك أفراد هذه العائلة الموصل إلى تدمير الذات وتحطيم الآخرين الذين يرتبطون بهم ويتساءل :
(( لماذا يحب رجال هذه العائلة ونساؤها ويبغضون على هذه الدرجة من الأذى لأنفسهم؟ (ص114) .
لقد نشأ في مناخ ” انتحاري ” ، فقد حاول خاله «عادل» الذي كان يحبه ، الانتحار عدة مرّات من أجل امرأة لم تبادله الحبّ ، وانتحر أخوه رياض من أجل الحب ومات، وحاولت أمّه الانتحار ثلاث مرات.. وها هي تعيش مع أبيه لعبة انتحارية متطاولة حطمت ذاتيهما وأرهقت وجوداً إنسانياً مشتركاً بينهما عاملاه بلا رحمة رغم ضريبة الرعاية «الرسمية» والمشاعر التكفيرية التي يتغنيان في إظهارها(*) . وإذا كانت أمه قد بذرت بذرة الفناء في قلب عادل – خاله – ومن بعد لدى رياض – أخيه كما يقول أبوه (ص103) فإنها قد سمّمت حياة ابنها «مازن» . فبسبب عدم استقرار وكفاية المكوّن الأمومي للعنصر الأنثوي في لاشعوره ، نجده غير قادر على تحديد ما يريده من علاقاته المتعدّدة بالجنس الآخر كنت فقط أبحث وراء كل فتاة ألتقيها عن شيء لا أعرف كيف أسمّيه . لا علاقة له بالحب أو الجنس أو العواطف. كنت أفزع فعلاً من تفاهة بعض الفتيات اللاتي قابلتهن (…) كأن العذرية في متناول أيديهن فقط . أنا العذراء أيضاً. لماذا لا يثقن بذلك. أنا الذي أصاب بخجل ولا أعرف كيف سأشرح ذلك فيما بعد» (ص119 – 120)..
لقد شخص زياد بيت الداء النفسي بنفسه ، ومنذ وقت مبكر حين ردّد أمام أبيه بأنّ على الأمهات، أو على الإناث أن ينجبن حقاً من أجل الأطفال ، وليس من أجلهن هنّ ) ( ص – 173 ) . والأب يردّد أمامه قبل ذلك ( إن أمك أنجبتك لأنها كانت تريد تحقيق أنوثتها» (ص173).. في حين أن الحمل والإنجاب كان محاولة يائسة من قبل هدى للتصالح مع الظل الذكوري المتعسّف في لاشعورها – الأنيموس – Animus – كما يسميه «كارل غوستاف يونغ»، ولن يتغير الأمر كثيراً إذا قلنا من وجهة نظر فرويدية – أن الإنجاب كان سعياً مستميتاً لمداراة إنجراحات الحسد الذكوري . إنها لا تتردد في الإعلان عن أنها لم تكن مربية صالحة ولا زوجة مطيعة، وما كان يجب الإنجاب أصلاً مادامت الأمور قد وصلت إلى تلك الحدود من الألم والقطيعة. (ص174). هي الوحيدة التي يبعث فيها البيت الزوجي ضيقاً وانسداداً في المجري الدموي. وإذ يعتبر مازن هذا الاعتراف كرامة وشجاعة من (أمه) فإنه يقدم لنا مثلاً عن الكيفية التي ننظر فيها إلى الأمور من منظور لاشعوري يُشعرعن – بفعل الحفزات المحرّمة – ما هو غير مشروع من سلوكات موضوع الحب . وحتى وداد التي أمسكت بـ«شعورها» جانباً من ردة فعل الظل الذكوري – في التحكم في استجابات هدى تعود – من باب أقل الخسائر – إلى «أمثلة» صورة هدى لتتسق – بلا خسائر باهضة – مع الصورة التي رسمتها طوال الرواية لها كامرأة منفردة تناقش في كل شيء من الصهيونية إلى الشذوذ الجنسي – كذا!!- . تقول وداد بعد أن رقق النبيذ دفاعاتها :
«أتذكر فقط أن هدى ، أجل يدها وليست يد مصعب هي التي كانت تحط ، وتربت على كتفي وشعري، وبطريقة لن أنساها ما حييت، طريقة بين الحنان الذي لا يحب أن يكشف عن نفسه ، وتلك الجدية التي تحرج هي الأخرى، إذا ما زادت عن حدّها.. يومها تأخرت في النوم حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي، ومن كان يطل عليّ ؟ هدى ، التي كانت لا تشبه غيرها من النساء» (ص161.
هكذا نمسك – دون أن «تقصد» الكاتبة – بآليات تشكل الفكر البشري في عمقه الغائر ، وليس في مظاهره المضلّلة.. آليات تصممها الرغبة والصراعات اللاشعورية لتأخذ عبر «استحالة» تمثيلية تتكفل بها اللغة، هذه الأداة السحرية التي تقول للشيء كن فيكون ، وتُلبس أشد الدوافع اللاشعورية ضراوة ، أردية أخاذة تغيّب الأبصار، بل تغشيها وتوزع طاقة التركيز نحو «الشكل» السردي الآسر الذي يوجه البحث المضموني، إلى المعنى الظاهر Mainfest Content – أو العميق القريب المحدد بالأغراض الشعرية مهما كانت دوافعها التحليلية ، في حين يمكن الإمساك بالمعنى الكامن – Latent Content – وهذا يشبه ما يحصل في عمل الحلم – من خلال أداة التمويه نفسها – اللغة . ولعلّ أشد المرتكزات الكاشفة ثراءً والتي قد لا تستحوذ على انتباهة عين لاشعور القارئ – وحتى الناقد – الراصدة هو رمز «اليد» الذي تؤكد عليه هدى – ومن ورائها الكاتبة – كثيراً.. ففي كل موضع تذكر فيه اليد هناك وظيفة نفسية ودور تأويلي يمكنه أن يزيح الستار عن ما هو ، مسكوت عنه» من خطاب اللاشعور المكتوم . تتحدث عن صبيحة – صديقة الثانوية المسائية والخيانة الأولى – فتكون «اليد» مفتاحاً ليس للعب على الصلة الحسيّة بصبيحة في الموقف السردي بل في تأخير وتعطيل ما يمكن الكشف عنه راهناً في البنية اللا شعورية لهدى إلى مديات بسعة رواية ، ولعل هذا جوهر فارق الرواية عن القصة :-
«كانت يد صبيحة تتمهل أمامي وهي تضعها تحت الضوء . يدها تشبه كائناً يرتدي اللباس الكامل ولا يضع أي علامة للتنكير، يدها كانت تبدو مدربة على جميع الأشياء بصورة مقنعة وصحيحة، فكانت تقربها من يدي، تأخذ يدي، تفتحها، تفحصها كأنها تعرضها للبيع ، وتبدأ من الأصابع ، صبحية لا تحب الحديث الكثير.. تشتغل مع الذي بين يديها.. يدي بأصابعها الطويلة النحيلة تبسطها أمامي وتردّد «هناك ممرّ سرّي بينك وبين جسمك. ادخليه وحدك حتى يندفع الدم إلى دماغك ويضرب طبلة أذنك» نغمض أجفاننا ونبدأ بسماع أصوات ارتطام كائنات ببعضها، نوافذ يتشقق زجاجها في ثوان، وطرقات تتبادل النظر ، وتتذكر بعض الأشياء ، لبشر لهم رائحة بخور وزعفران ،.. يا لتلك الحدائق التي تفتح من جميع الجهات فلا يركض فيها إلا الورد، وأنا ممدّدة في تلك الغرفة أحضن يدي ، أرى يدي ولا أتجنب يدي ولا مجيء صبيحة» (ص31) .
ومن اليد وعبرها.. وبواسطتها يُعبّر عن تشقق الذات في ذروة انفعالها الحسّي بتشقق العالم الخارجي.. من اليد وبها يتم التقرّب من عالم خفي كامل مركّب ، وفي غاية التعقيد بظلاماته ومراوغاته المحارميّة التي تتنكر في لبوس ذكرى انخذال وانسحاق الأنوثة الغضة بـ ” يد ” الذكورة الأبوية الساحقة.. لكن «مكان» ترابط ذكريات الأيدي ، وامتدادها من يد الزوج / الحبيب ، إلى يد الأب / الذكرى القامعة يحيلنا – بصعوبة تحليلية بالغة – إلى ” اليد ” الآثمة المُسقطة عبر هذا التنكير والمخالفة :
«في ليلة الزفاف.. تضحك يده . تبدأ من اليدين ، يجب أن يدوم الضحك ، أيدينا مستلقية قربنا ، لو سارت الأيدي لتركتها وحدها ، لجاءت يد أبي الحقيقية التي كانت تصحبني دائماً على الرأس والكتفين ، على الظهر والذراعين، يضرب أبي ودموعي مثل بخار السطح العالي ألاحقها وتفرّ من أبي» (ص65) .
إن عناء قاسياً – لكن مباركاً – ينبغي على الناقد – وقبله القارئ – أن يسفحه وهو يحاول الإمساك بتشعبات «جملة» عالية ممدوح الدلالية العظيمة .. بجملة مضلّلة.. تلعب.. هي ببساطة «يد» لغوية تلعب وتتلاعب بجسد الوقائع .. بطيئة الحوادث وهي تصب منها عشرات الأشكال السردية الباذخة.. وبخيط الرغبة الأحمر الذي نسجت منه هذه المصيدة المذهلة .. تقول هدى لبثينة في رسالتها الثالثة أن صبيحة كانت تقول لها :
«لا أنكر أنني امرأة حسيّة . لا أستطيع التعبير بالكلمات وحدها. بل إن أنطق بيدي أكثر مما بلساني». وتقول هدى منبهة بثينة :
«أرجو أن لا تعتبري هذه السطور موضوعاً جديراً بالتسجيل في مذكراتك ، أعرف أنك تكتبين مذكراتك منذ فترة طويلة» (ص136).
أي أن الخطاب الذي يتجه ظاهراً من هدى ومن خلال «يدها» إلى بثنية هو في سرّه خطاب صبيحة !! .. يتجه منها وعبر «يدها» إلى هدى التي تنقله إلى بثينة .. أي أن الخطاب الذي يتجه ظاهراً من هدى ومن خلال «يدها» إلى بثينة هو في سرّه خطاب صبيحة .. يتجه منها وعبر «يدها» إلى هدى التي تنقله إلى بثينة.. أي أن التخطيطة بسيطة لكن معقدة وعنيدة .. حركة «يد» بسيطة :
هدى ——- تكتب بيدها إلى بثينة – حديث صبيحة إلى بثنية (تنصح بثينة بأن لا تكتب هذا الحديث في مذكراتها)
هدى ——- تكتب حديث صبيحة إليها —- هدى
لكن تعقيد فعل «اليد» سيدهم استرسالنا الذهنبي الاستنتاجي حين نضع في حسابنا أن الكاتبة تكتب ما قالته صبيحة لهدى والذي نقلته هدى إلى بثينة مع التحذير بأن لا تكتبه في مذكراتها.
الكاتبة تكتب حديث ← صبيحة ← الذي نقلته ← هدى إلى بثينة (وطلبت منها أن لا تسجله في مذاكرتها ) . ولكن مهما كانت شخصية بثينة مفترضة سردياً فإن هناك جهة مكملة ستسجل هذه «المذكرات» حتماً وتتمثل في القارئ .. ولكن ليس كل قارئ بقادر على الإمساك بفعل «اليد» التي تكتب ومغزى هذه الكتابة إن لم يحمل وجهه نظر نفسية تكشف له الأبعاد الحقيقية للعبة «اليد» . أي أننا سنكون أمام مستويين من القراءة :
– قراءة القارئ التي تستمتع بصراعات المصائر وتماهيه مع خطوط نهاياتها وتفريجها عن مكبوتاته
– وقراءة القارئ ، الناقد ذي الرؤية النفسية – والشيء نفسه يقال عن القارئ / الناقد الذي يتحصن بمفاتيح قرائية نقدية أخرى – الذي يمسك بجذور لعبة «اليد» في مستواها الأعمق ؛ مستوى اللاّشعور بظلماته المخيفة.. لكن بتسجيل فعل لعب «اليد» ، يد صبيحة في طفحها الحسّي ، ويد هدى في نقلها هذا الطفح المغوي إلى بثينة، ويد بثينة في عملها المؤجل الذي يضطلع به إجرائياً القارئ وفق مستويين ، يتطلب شرطاً يحقق التوازن على المستوى النفسي ، شرط بخلافه يفقد أي عمل فني «جدّيته» ويتحول إلى ألهية وألعوبة إذا لم تعد الاستجابة الراجعة إلى مصدر له شخصانيته و( مصداقية ) وجوده المادّية في غلق دائرة الانفعال والاستيعاب.. وهذا المصدر هو المؤلف الذي لا يموت رغم كل تخريجات رولاند بارت المحكمة .. المبدع الحي الذي لا يموت .. وهو هنا «عالية ممدوح» بجرأتها وشراستها الإبداعية الضارية ، التي سنعود إليها مهما تعددّت الشخصيات ومقتربات تناولها .. نعود إليها .. ليس إلى هدى أو صبيحة أو بثينة.. لنتساءل بحرقة.. حرقة تمسك بتلابيب وجودنا اللاشعوري عن سر هذا «الولع المميت» .