أنا دوماً لست مع ولا ضد، أنا في منطقة الحكاك الفاعل المؤثر البناء، أنا مع الأسئلة، مع روعة النحت للتماثيل التي توجع ضربات مطارقها الحجر الهامد الذي يترقب مثاله، أنا مع الفعل
مهما كان. كيفما كان؛ لأنه ببساطة ضد السكون والموات. لماذا أقول هذا الذي أقوله الآن، وأنا في موضع حديثي مع رواية التشهي لعالية ممدوح والصادرة عن دار الآداب 2007 في
207 صفحات؟ ببساطة أقول لأني أنوي الدردشة مع الرواية ومع عالية من خلالها.
ترقبت الرواية بشغف، تفتحت له مسام مخيلتي وأسئلتي استفاقت مجاستها والكلمات تنثال من بين شفتي عالية، أثناء لقائي بها ولا أقول منها في مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة في محاضرتها
عن المنفى والكاتب عندما أعلنت أنها بصدد الانتهاء من رواية متعبة سمتها (التشهي)، وقرنت حديثها بحديث حفر عميقا في دواخلي عن حلم بكتابة رواية العشق العربي إذ لطالما سكنني
السؤال من سيتصدر لها؟ من سينبري ليحدق في عمق العشق ليقوله بلسانه ورؤيته وواقع العربيين، وكان صوت عالية الذي يبشر على الأقل في مستوى السؤال بحلم يسكنها عن قول هذا
العشق، وهي التي دربت قلمها وروحها وهي الأهم على ذلك، وسلكت دروباً من المعرفة الجوانية فيما أرى تؤهلها للخوض في غمار الكشف والتعرية والبوح على حد الفيض عن العشق في
صورة رواية له قد تكون كاتبتها عالية.
هل أخص؟ هل أستقر؟ هل.. وهل..؟ لا تضنيني الأجوبة، بل أثق بحدسي الذي يؤنبني بان عند عالية ما ستقوله في هذا الصدد، وأن لآلئاً ستبرق من محارها عند غوص عالية عليها.
أعود.. لأقول في التشهي ما راق لي، وما لم أجده في كتابة من تناولها بالعرض كإصدار أدبي دواني عربي جديد، نعم.. لقد ترقبت التشهي، وضحكت مثل طفلة في الخامسة عندما وقعت
عيني على الغلاف ان عالية قد سئمت الوجوم والتجهم، وقررت أن تضحك وتضحكنا معها ضحكاً سوداوياً قاتماً يليق بعوالمها إذ في كل مرة اقترب من رواياتها أجهز نفسي لكابوس أسود؟
ومثلاً.. أضحكني أكثر مدخل الرواية، لا أقول فرحت بل ضحكت وشعرت بالانتقام بالثأثر الذي طالعتنا به عالية فجاً فاضحاً ومتبجحاً ومنذ الكلمات الأولى التي استهلت بها عملها الأدبي
الساخر، شعرت وكأنها تهرج وإني في سيرك من الكلمات، والحوادث فيه لا تكتسب دلالة أكبر من تلك الدلالة الرمزية التي يوظف بها المهرج أدواته، ليثير بنا شهية الضحك، ولتدميه
الجراحات المتورمة الملتهبة إثر لعبه واستعراضه وعبثه الطفولي أمام الجمهور؛ ليعود إليه آخر الليل، عند اكتمال الصمت مجروحاً ودامياً ولا سلطة له على الدمع الذي ينثال من عينيه في
فعل اغتسال سرعان ما يكف عن التحديق به مسترحباً ضحكات الأطفال ليبتسم واضعاً ورقة على شعره المنفوش مجدداً دورة الساقية، أو مستحضراً في سادية سيزيف الأبدي.
عالية تطلق رصاصة التأثر وتنتقم من منهم مغلوط للذكورة التي يختصرها البعض في فعل يوازي فعل سرمد عندما سأله صديقه يوسف: (ولا مرة سألتك عن مرجعيتك) ليمد الأول يده إلى
ذكره ويجيب: (هذا) ضحكت.. ضحكت.. ضحكت.. بملئي والطبيب الباكستاني يؤكد لسرمد (المريض العراقي) حسب ما اتفقت الأوساط الطبية في مراكز العلاج والحمية على تسميته أقول،
يؤكد الطبيب الباكستاني لسرمد سافراً على (أن (صاحبه) قد أصيب بنوع من السكتة، مثل السكتة القلبية أو الدماغية)، أما يوسف الذي سنتعرف عليه أكثر أثناء تكشف الرواية واستدعائها
لماضي الشخوص فيها، فهو ابتداء صديق لسرمد وطبيب نفسي عراقي يعيش في باريس فيصف ذات الحدث بقوله: (إن صاحبه اعتزل).
وبين السكتة الصادرة من فم الباكستاني والاعتزال الصادرة من فم الصديق النفسي الذي طاله ما طاله من مهند الأخ الشقيق لسرمد الشيوعي المنسحب، الذي غادر العراق وارتحل إلى المنفى
بسبب قسوة أخيه عضو المخابرات العراقية المتباهي بأفعاله الإجرامية بدءاً من اعتقال والد ألف وموته تحت التعذيب ولا انتهاء بهروب أخيه وعدم العثور على جثته ولا إصابة أمه بالشلل،
ولا الاعتداء على يوسف الذي سينصح صديقه بالقدوم للعلاج في باريس، ولأخذ حصته من السرد في الرواية فيقول عن مهند: (لست وحدي الذي كان يفعل في كذا وكذا، كان يتركني أنزف
كما المرة الأولى، حتى يمتلئ لباسي الخام بالدم الذي ظلت صورته تطاردني حتى هذه اللحظة)، وليمعن في أفاعيله يتزوج قهراً (ألف) عنوة يحظى بها، ليقهر فيها حب سرمد لها وحبها له
ويظل يتابع شقيقه مستثمراً أسلحته الاستخباراتية؛ ليحتفظ بتسجيلات مصورة لسرمد في لقاءاته مع كيتا والبيضاوية ومع ألف التي زارته مرة في لندن، وليقول بفظاظة شاتماً أخاه سرمد
على الهاتف: (كانت تضاجعني وهي تحلم بك فوقها وأنا اعرف ذلك.. أبول عليك)، قسوة مرعبة واضطهاد مريرة ، تشظ دامٍ يليق به تلك اللغة المتشظية التي سلمت عالية لها نفسها، وتدفقت
عن لغة فيها الشباب، وفيها الشغف، وفيها الأسئلة، وفيها المرارة، والعجز والاستلاب في عمل يجسد الاغتراب في واحدة من قممه النفسية والوجدانية والوجودية الإنسانية، وكل ما ترمي إليه
عالية أن تمد مخالبها لتهبش القناع، لتخلعه أو لتخلخله من مكانه في أقل المستويات فنرى الجذام على حقيقته، ينخلع عنه قناع الحديد من المسكوت عنه، لتفجعنا صورته الصادمة، لعل عالية
في التشهي انبرت لآخر جولاتها في نزع القناع، لتحدق فيه بكل جوارها، ولترى بعد ذلك ما تراه، هي وحدها التي تعرف بعد جولة التشهي ما الذي تراه أو ستسمح لنا بأن نراه لاحقاً من
خلالها. نعم الإطار إطار واقعي شرس لئيم وخبيث وسافر ومنتقم أحداث، عمل تجاوزت فيه عالية نفسها ممهدة في كل ما قبله له، وقد أنهت قبل البدء به في سؤال نفسها بأي طريقة وبأي
شكل وبأية بنية سأتسلح، لأخوض في غمار معركة الثار، وكان أن اختارت البنية الدرامية الساخرة الفظة الوقحة في ألفاظها والقاسية في واقعيتها، بنية أخذت من المنفى مكاناً للتحرك
والانطلاق وعادت منه إلى الماضي متمثلاً مكانياً في العراق بغداد حي الوزيرية، وكأني لحظة قراءتي للصفحات الأولى من الرواية قد استرجعت عبرها الرائعة السينمائية (إنهم يقتلون
الجياد.. أليس كذلك؟) بنفس الطريقة، ونفس الآلية، اطلقت عالية رصاصة الانتقام من مفهوم خاطئ وسيء لا للمرأة فقط بل وللرجل نفسه وبالتالي المجتمع الحاضن لهذه الفكرة والذي تغيب
فيه الرجولة بمعناها الإنساني لا كجنس بل كفعل حيث الرجل في المعاجم تطلق على الذكر والأنثى معاً في الدلالة على الفعل المنجز، فهو رجل وهي رجل أي يقول كلاهما ما يفعل، ويفعل
كلاهما ما يقول، ثم تابعت بالعودة إلى الماضي عرضه التراجيدي الكوميدي السافر الساحر، المر اللاذع، واسترجعت الأحداث والشخوص والحياة، ولن أتفق مع من كتب عن الرواية قوله:
(سيرة وطن بسيرة رجل) ففي العراق من السير ما يفوق الخيال، وما يفوق الأعمال الأدبية، ولكنني أتفق تماماً مع إلياس فرتوح في مقاله عن العمل الذي يحذر فيه من الانسياق خلف غواية
الاسم، وخلف الاحساس بفهم المغزى السطحي لدلالة ضمور بل عطالة الذكورة عند سرمد، حتى الإشارات التي صرحت فيها الشخصيات عن ذواتها بالنيابة عن عالية من مثل سؤال أبو
العز سرمد عن معنى اسمه فأجابه بعراقية محلية تعني الظلام الدامس، هذا السرمد مقابل الألف الحب الحقيقي مع ما تعنيه الألف من معانٍ قد إلى في حديثه عن الألف قائمة من غير ما
ركوع، والتقاطع مع الشخصيات الأخرى العالمية كيتا الألمانية التي جاءت لندن بعد سنوات من سقوط جدار برلين، وأبو مكسيم الشيوعي، تهكم وسخرية لاذعة أخرى من عالية تسقطها على
كل الايدلوجيات أنظمة وأفكاراً وأشخاصاً، لتعلن على لسانهم جميعاً: (نحن أنقاض يا عزيزي)، هذا الانتظار لجودوو تسخر منه عالية أيما سخرية في النهاية المرة التي تقفل بها العمل على
لسان البيضاوية الفتاة المغربية أمنية التي تقول له وفلول الجيوش الأميركية ــ (الشقر دخلوا مدينتنا، حتى السود والصفر والسمر شقر أيضاً) ــ تدك بغداد العام 2003: (سرمد، مدينتك تدك
دكا وأنت غير قادر أن تدكني بوردة).
رواية التشهي هي رواية التشفي، عالية تتشفى في كل المنظومات التي قمعت الوردة، لتثأر لاهية بنا، عابثة بفهمنا وبعمقنا، مستخفة بقدرة الكلام أصلاً على قول ولا يقال، على قدرته حتى
على ترجمة كل اليقينيات: (فالجمال والعدالة والحرية يقينيات متحركة) وتعلنها مدوية: (الجنس لا ينقذ هو مجرد فراغ)، وحتى الحب: (الحب يدبر لنا الموت، الحب لا يكفي بذاته كأنه من
امتلائه الشديد يصير لا شيء)، عالية تتحرك في التشهي بين بينين بين التشهي الذي يعني الشغف والتواصل العميق والوردة والتشفي الذي يعني الثأر والتقزز من حالة الأمل المترقب إذ لا
أمل هو أمل مبتور أصلاً، وهي لغة عاطلة عن قول نفسها طالما أنها تختال وتكذب وتترجم وحتى في الأخيرة هي ترجمة غير وفية، غير صادقة: (لو ترجم البيان الشيوعي ترجمة سليمة
وامينة وجميلة ثلاث كلمات تختصر الأشواق الظامئة والتوق المكلوم الذي يسكن حنايا عالية، السليم المعافى، والأمين الصادق، والجميل النبيل، التشهي رواية الخراب في مقابل الحلم، رواية
الواقع الكوميدي في تراجيديته مقابل الامنية، هي الصرخة الضاحكة الحادة: ( سرمد أنت دائما تعيش في مكان آخر..
أنت يا سرمد لا هذا ولا ذاك. أنت هش ومكسور ومجروح) صوت خفي في عالية ينتصر للأنثى منحيث هو يثأر لها في عملها هذا، هي عالية التي تقول عن ألف: (ألف كالشهوة، موجودة
لكني لا أقدر على لمسها) وكل الرواية تدور حول هذه البؤرة من المكان، من الحرمان المر من الشغف والإنوجاد والكينونة، في حين أن المرأة القائمة الصلدة التي تحتمل التفسخ والتحلل
مستعيضة عن تحقق المحلوم بالحلم وبالصوت الذي يصل سرمد عبر التسجيلات؛ ليحضه؛ ليستنهضه وليحفز فيه تشهي الحياة والمقاومة والحب.
التشهي هي القول ما قبل الأخير لمن سئم المرارة، وتهيأت روحه للتفتح متحدياً ذاته، ومعالجاً لجراحاته لا علاج المكابرة بل علاج المفاتحة.
* شاعرة أردنية مقيمة في البحرين
15-ديسمبر 2007