في بداية القرن العشرين كان الغزو الثقافي لبغداد “مُبرراً” بذريعة التبشير الديني من الآباء اليسوعيين، وبذريعة بناء كلية بغداد ما بين العام[ 1928-1930] وبمساهمة من
المُدرسين الأمريكان والإنكليز بقصد التعليم، لكن كيف لنا أن نبرر قرع طبول الحرب عام 2003 لعاصمة كانت منذورة للإبداع والشعر وفن العمارة والموسيقى ذات يوم؟ تراجيديا عن
العاصمة العراقية قبل وأثناء الغزو وسيطرة العمائم السوداء على شارع التانكي الذي كان فيما مضى، حُلماً لرواد المقاهي وللمثقفين وللحالمين بالحرية. عن العاصمة التي تمتاز بحسن
الضيافة للغرباء.
رواية التانكي عن اليأس الذي دب في أوساط العائلة العراقية بعد اجتياح المد القومي وعن خيبات الأمل وضياع المثقفين وفقدان الوطن في المنافي بحثاً عن الدفء المفقود في حواري
باريس. سلسلة من المشاهد عن اِنكسارات الشرق بعد اِجتياح مغول العصر للسلطة ليس في بغداد فحسب، بل ينطبق هذا الأمر على عدن ودمشق والقاهرة وطرابلس وتونس، حيث أخذ الفن
بالاِنحسار بعد تمدد العسكر وتسييس المجتمع، لقد حلت الكراهية وامتلأت المدن بالشقاء تحت ضوء ساطع في وضح النهار. بكلمات مُقتضبة تتناول عالية ممدوح انقلاب 1979 وانفراط
عقد التحالف لجبهة “كانت تضم حزبين أحد الحزبين توقف عن الحيض والثاني تعرض للخصاء، حينها سيطرت قيم مُنافية للجمال، سيطر الألم”.ص218
عفاف بطلة الرواية تهرب من بغداد التي نبذتها إلى باريس وريثة الثقافة الإغريقية والفن، الرواية عن أوطان يسكنها العنف والحسرة والشقاء، إلى أماكن مليئة بالحب وعشق النبيذ والحرية
والعبث. لكن هل بلاد الفرنجة المشؤومة خدعتْ عفاف؟ هل من بديل عن نسائم دجلة والفرات لأبن العراق، هل من بديل عن حميمية العلاقات الأسرية؟ تقارن عفاف بين حضارات الشرق
والحضارة الإغريقية، وبخيبة العارف تكتشف بأن الفارق بين تلك الحضارات وهذه الحضارة هو الموقف من اكْتِمال العُري في فن النحت والموقف الأخلاقي من القيم السائدة، وفي مونولوج
تستذكر بأن العُري”دليل على الحكمة والقوة والكمال، عكس الحضارات الآشورية والفرعونية، التي تُغرق العُري بالخزي والخضوع، هنا الإغريق يقرنون العُري بالبطولة”ص251.
بين إيثاكا وبغداد
في الرواية مُقاربة بين إيثاكا مدينة يوليسيس وعودته بعد عشرين عاماً، وإخلاصه لحبيبته ﭘنلوب، وبين بغداد التي هجرتها عفاف وبحسرة تتطلع نحو تلك الديار! هل ستعود عفاف كما عاد
يوليسيس؟ في حديثها مع الدكتور فالينو تُبرر عفاف تَحمُّل الحياة بطرقٍ شتى: بسخرية وبعبثية وبلامُبالاة :”الجنون موجود، دكتور، لأنه ضروري كالعقل”ص129 .أليس المنفى في
نهاية المطاف تحطيم للعقل، عندما يُستباح الوطن؟
عفاف الشخصية المحورية في الرواية، تتشابك علاقاتها مع يونس وطرب ومُعاذ وصميم لتسليط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية في بغداد، لاحقاً نتعرف على عفاف أخرى بعلاقتها
الحميمة مع مسيو كيوم، بهذه العلاقة تجرب عفاف عوائد الحب شطط الرجال، والنجاة من الوحشة، لكنها تلجأ إلى تناول المُهدئات العادية بعد أن انتهت قصة حبها العابرة بخيبة وذهول.
دأبتْ الرواية العربية على إبراز فحولة الرجل الشرقي أمام إعجاب وعشق المرأة الغربية لسمرة وقوة هذا الفارس القادم من مُدن ألف ليلة وليلة، في الرواية سَبَقٌ لم نعهده باقتحام الرجل
الغربي لمجاهيل المرأة الشرقية(عفاف) لعذريتها وحميميتها. بالرغم من صعوبة العيش والضياع في شوارع باريس في مونمارتر مهد فناني العالم، ومع بعض النجاح الذي أصاب عفاف ببيع
لوحاتها، وقعتْ على الجواب الذي كان يؤرقها: لن أعود…ولمن أعود! الرواية تتشظى إلى مسارات غير متوقعة، تحتل شخصية أيوب آل الطبوغرافي رمزية اِختفاء ذاكرة المدينة، ويجسد
مُختار، المحامي والسكير، تحدياً وجودياً للموت وللمارينز، أما صميم، فيمتاز بقدرة هائلة على السرد لتفاصيل الحياة الجميلة، مُتحملاً الاِبتذال والاِنحطاط. يحتل الحذاء حيزاً في السرد
الروائي ولعل غلاف الرواية الذي يتناسل إلى أحذية، يُذكرنا برمزية ودلالة السبق الصُحفي لحذاء منتصر الزيدي.
—————————————————————————————–
*التانكي: من منشورات المتوسط إيطاليا، الطبعة الأولى عام 2019 . رُشحت للقائمة القصيرة للرواية العربية(البوكر)عام 2020 .
**عالية ممدوح: روائية عراقية من مواليد عام 1944، لها مجموعة قصصية بعنوان” افتتاحية الضحك” و”هوامش عن السيدة ب”. أشهر رواياتها”حبات النفتالين” الصادرة
عن دار الفصول-القاهرة عام 1986، ولها أيضاً رواية: الولع، الفلاحة، المحبوبات، التشهي، وغرام براغماتي. تُرجمت بعض رواياتها إلى لغات عالمية.
https://annasnews.com/news/reports/2020/05/06/%D8%A7%D9%84%D8%AA
%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%8A-%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%85%D8%AF
%D9%88%D8%AD-%D8%AE%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%84-
%D9%88%D8%B6%D9%8A%D8%A7/