الصورة التي تذكّر بالموت
تقبض عالية ممدوح في روايتها على الزّمن كأنّها تقبض عليه في قصيدة. وإن عاد السّرد إلى
“الرواية التي تتخّذ من النخبة العراقيّة المثقّفة في النصف الثاني من القرن الماضي، وحيّ التانكي الذي تسكنه، مسرحاً لأحداث ترخي الكاتبة حبالها مع التواريخ الواقعيّة والسياسيّة، وتشدّه
مع السرد الشخصيّ واللغة التي تعيش في البطون”
الوراء، أو تقدّم، يظلّ الانتقال عبره رمزيّاً. كأنّ الشخصيّات
ولدت وستموت على الحال نفسها الذي سيُصار إلى جعله قدراً محتّماً لا زواجر تقف في طريقه. ولعلّ استخدام الكاتبة لفكرة “المكّعب” الذي يصممه المهندس معاذ الألوسي في بغداد،
وتدور في فلكه الأحاديث والأحداث بين الشّخصيّات، يتجانس وحصر الزّمن، والقبض عليه داخل إطار الصورة التي تُلتقط عند أوّل الرواية، يقف فيها من يقف ويغيب من يغيب، ثمّ نفهمها
عند نهايتها حين توضع في سياقها؛ وهو وداع عفاف قبل رحيلها إلى باريس.
في بطانة الرواية، توظّف الكاتبة الصورة كوسيط وكموضوع في آن. فنرى عفاف تنفر من أن تكون في كادر كاميرا. في إحدى عينيها حَوَل واضح. يلاحظه موظّف المطار الفرنسيّ، بل
يلاحظ ألمها البائن على سحنتها عند التقاط الصورة الشمسيّة. في الصور تذكير أوتوماتيكيّ بالموت. فسيتعاظم معناها وقيمتها بعد الموت، ولا بدّ أن ترتبط به. “هيّا أسرعوا قبل أن يموت
أحدٌ منّا”، يصرخ أحد أفراد العائلة أمام عدسة الكاميرا قبل التقاط الصورة. تذهب علاقة الموت بالصّورة عند عالية ممدوح إلى ما هو أكثر رعباً من ذلك. فتصير علاقةً ملموسة وواقعيّة
وحاضرة، وليست علاقةً متذاكية يصطنعها اللاوعي، أو الفنّ.
إنّ كره عفاف للصور جعلها تستعيض عنها باللوحات. تروح ترسم أفراد العائلة، ترسم وجودهم، أو غيابهم، في منفاها الباريسيّ. فتتحوّل هذه اللوحات إلى الإجابات الوحيدة الحيّة على أسئلة
أفراد العائلة للطبيب: أين عفاف؟ هذه هي العلاقة الوحيدة القائمة بينهم. ترسم عفاف مرحلة يقول عنها رفيقها الفرنسيّ “المرحلة الممحوّة”. وربّما يكون الفنّ هو العلاقة الوحيدة القائمة
بين العراقيين، أو النخبة العراقيّة التي تتحدّث عنها ممدوح، وبين وطنهم وعوائلهم. لكن هل هي حيّة؟ ممحوّة؟
شخصيّات ذات صوت واحد
لا يمكن خلال قراءة الرواية التوقّف عن التفكير بالألسن. الجميع يُلقي بمونولوجات طويلة أمام الطبيب كارل فالينو، ويتساءل: لكن، أين عفاف؟ إن هذا البحث الجمعيّ عن هذا “الشيء”
“فكرة “المكّعب” الذي يصممه المهندس معاذ الألوسي في بغداد، وتدور في فلكه الأحاديث والأحداث بين الشّخصيّات، يتجانس وحصر الزّمن، والقبض عليه داخل إطار الصورة التي
تُلتقط عند أوّل الرواية”
الذي يتمثّل في شخصيّة عفاف، يجعل الشّخصيّات تفقد صوتها الخاصّ، على الرغم من التباين الفنيّ اللافت الذي صنعته الكاتبة لكلّ منها. صحيح أنّ ممدوح قامت بعنونة بعض الفصول
الفرعيّة بأسماء المتحدّثين فيها على كرسيّ الطبيب المتخيّل المُثقل بظلال المدينة المثقّفة البديعة، التي تسقط على شكل كائنات محبوسة بين أشباح المارينز المتجوّلين في حيّ التانكي، إلا أنّ
القارئ يعيش تحت وطأة التباس يتبدّى في التشويش الحاصل بين الأصوات. يجتهد أحياناً لمعرفة صوت المتكلّم، لكن سرعان ما يكتشف أنّ ذلك لن يشارك في جوهر الرواية.
في تنويه جاء في نهاية الرواية، نفهم أنّ المؤلّفة استعانت ببعض ما دوّنته شخصيّاً، أو ما هو محفوظ في أرشيفها الخاصّ، أو ممّا قامت به من مراسلات مع بعض الصديقات والأصدقاء. ربّما
أسهم ذلك في تشكيل المبنى الروائيّ القائم على هذه المونولوجات، في منطق سرديّ غير كرونولوجيّ، لكنّه متماسك. قد تؤثر هذه البنية، في رواية تقع في 261 صفحة، سيّما أنّ أصوات
الشخصيّات ستغدو نغمة واحدة وصاخبة، على إيقاع السّرد وحيويّته. إلا أنّ الأجزاء الأخيرة من الرواية تُظهر كيف أنّ ممدوح صنعت ذلك بقصد بلوغ هذه النغمة التي ستلازمك كأنّها طنين
في الأذن. “كان الأمر نوعاً من شبوب النار في بطون وأعناق عائلة كاملة”، جاء ذلك وصفاً لخسران العائلة لوقفيّاتها، لكن لن يتوقّف عند هذا الخسران، بل سيكون شبوب النّار وصفاً
لخسران الوطن ومدنيّة المدينة والصداقات.
توجّه الكاتبة آذاننا نحو سماع هذه النغمة من خلال عفاف، الشخصيّة الرئيسيّة شبه الصامته إلّا
“أصوات الشخصيّات ستغدو نغمة واحدة وصاخبة، على إيقاع السّرد وحيويّته. إلا أنّ الأجزاء الأخيرة من الرواية تُظهر كيف أنّ ممدوح صنعت ذلك بقصد بلوغ هذه النغمة التي ستلازمك
كأنّها طنين في الأذن”
من وخزات مؤلمة وساخرة وفطنة جدّاً تُلقيها ببرود وعدميّة شديدتين. فتبدو كأنّها شبحٌ أو ضميرٌ يلاحق الشخصيّات، ربّما هي غير موجودة فعلاً. ورحيلها عن بغداد هو رحيل العائلة النفسيّ
والذهنيّ. الجميع يسأل عن مكانها، لكنّه لا يبحث عنها، وفي ذلك يجثم الخوف من الكشف، والأمان في المنطقة الوسطى بين الوطن المُرعب والمنفى الأكثر رعباً، أو العكس.
تتذكّر عالية، أو عفاف، أو أشباح الشخصيّات جميعها “أعوام الصمت والمرض والجنون والمدينة الغدّارة”، في مرثيّة فرديّة كأنّها مذكّرات شخصيّة “ليست شأن أحد” لكنّها شأننا كلّنا
أبناء العواصم المبتورة والمقتولة. وفي ذلك اعتراف صريح بانتصار القسوة والشرّ على الأمل. أو كما وصفته عفاف “تنازل عن الإحساس بالعناء” أو ربّما الحنين. وفي هذا الاعتراف
حيرةٌ في القرار، أيّهما أكثر إيلاماً؛ الوطن أم المنفى؟ وأيّهما أسرع، كما قالت عفاف، في فراش مرضها، أو موتها: المرض الإفرنجي أم الداء البلدي؟ وفيه ما يجعل الانتظار بارداً؛ “انتظار
بلا تأفّف” كما تقول. كأنّ الأمل ورطة. أمّا الواقعيّة واليأس فيُلقيان طوق نجاة في بحر الحنين العظيم الهائج.
*شاعرة من فلسطين.