تتحدث رواية «التانكي»، لعالية ممدوح (طبعة المتوسط 2019)، عن فتاة عراقية، رسّامة؛ اسمها «عفاف»، تهجر العراق إلى باريس بعد انتحار خالها، وبعد التغيّرات السياسية التي
تحصل في البلد. وتنتهي هناك بوضع صعب من القلق النفسي بعد تجربة الغربة المريرة وبعد فقدها حبيبها (كيوم فيليب) الفرنسي الناقد والرسّام. وتنتمي الرواية إلى سرد العائلة الذي ينتج
من فقدان الصلة بالعائلة، وضياعها النهائي، وضياع رغبة الفرد في العودة إليها، مستبدلاً إياها بالمنفى الدائم. وذلك يجعل الرواية تنحو إلى السرد الاستعادي عبر أكثر من صوت سردي
لمناقشة أوجه العلاقة مع العائلة، والتشديد على أثرها في غياب الشخصية الرئيسة وارتحالها، وإظهاره بمظهر الحقيقة الموضوعية التي تتوافق عليها شخصيات الرواية كلها؛ فهما غياب
وارتحال قسريان ونهائيان علتهما فقدان الصلات التقليدية بالعائلة. ويبدأ سرد العائلة بلحظة متقدمة في الزمن أقرب إلى راهن القرّاء. وفي رواية «التانكي» هو عام 2011. ومنه يعود
إلى الماضي البعيد في الوطن وفي المكان، أو الحي، حي التانكي، وإلى البيت، وأفراد العائلة، وصفاتهم الشخصية، والنفسية، وسلوكياتهم التي تتصادم ويقصي أحدها الآخر، فالجدة سليطة
اللسان، والعم عابس ومتذمّر وعدواني، يميل إلى الانفلات من قيد العلاقات العائلية، فقد ترك زوجته الأولى «ناهدة» والثانية «فضيلة» والثالثة «ناجية». والخال الآخر «سامي»،
الذي ينتحر، إنما يدفعه تخلخل العلاقة العائلية إلى ذلك الفعل: «هن القتلة، دكتور، خالاتي وأمي وأبي»، مثلما سيدفع عفاف وأخاها سامي إلى الفرار منها إلى المهجر. رواية إنسانية ولعل
هذا التركيز على العلاقة العائلية يقلل حضور السياسي في الرواية، وينتج رواية مختلفة في هذا الجانب. رواية مصبوغة بصبغة إنسانية تعكس قلق الإنسان العراقي المعاصر الذي عاش
سلسلة طويلة من الحروب والتغيّرات السياسية الدموية، وتعكس تمزّق الإنسان المهاجر بين المنفى الذي لم يستطع الاندماج فيه ـــــ وعفاف تكتشف بعد فترة أن باريس لم تقدم لها ما كانت
تتمناه ـــــ والوطن الذي لم يعد يصلح للحياة، وليست من الممكن العودة إليه. وهي تمثّل له بالعائلة التي ذابت صلاتها بها منذ زمن بعيد وتحوّلت الألفة المحتملة فيها إلى وحشة دائمة تغذّي
النفس بالمزيد من العدوانية تجاه أفرادها، وتجاه كل ما يُذكِّر بهم: «لم تكن سعيدة في المنفى، و… كانت وحيدة في المكانين (المنفى وبلدها)، وهذا ما استغرق أعواما طويلة، جل حياتها. نعم،
هي فنانة من طراز خاص. متميز، فكانت تنمو بجوار فروع الشجرة الكبيرة للفن العظيم الذي عثرت عليه في متاحف باريس. مساحة التأمل وإذا كان التركيز على علاقة العائلة يقصي
السياسي، كما أشرت، فانه يوسّع مساحة التأمل التي تُعمِّق العمل السردي، وتمنحه الخصيصة الثانية المهمة والضرورية لرواية زمننا، هذه المرة على مستوى الشكل، فـ«التانكي» لا
تتوقف عن تأمل السلوكيات والأحداث والتغيّرات التاريخية والمكانية، ولا عن تأمل السرود التقليدية المُسَلَّم بها مثل علاقة عوليس وبنلوبي الواردة في «إلياذة هومير». وتستغل الرواية
الخط العريض الذي يجمعها بها، أعني العائلة لتتأمل الأدب ونفسها، وتضع سردها في الموضع المغاير تماما لما اختطته «الإلياذة»، «فحسب خطاب هومير، الوقت يفلت من بين ذراعيه،
والزوجة لا تغادر خرسها، العابر للخرساوات المكتئبات المنتظرات جميعهن دونما غفوة ولا نوم، وعلى طول سردية التاريخ، ألم تشاهد يدها يوما، وهي تفكّ كبة الخيوط تلك، وتعيدها؟
فبماذا تذكرك؟ كلا، ليس بالحنكة والصبر؛ بالتسول وبالعوز رسمت يدها، وهي تتسول ظلاً لعوليس، وهو ينهض مبتهجاً من بين أحضان «كاليبسو». ما الذي نراه فيها؟ اليد، والذراع،
الأصابع والكف والرّسغ. يدان هاربتان، ويغمى عليهما دائما، فتقرع الأجراس لكي لا تتوقف عن تلك التعاسة». و«التانكي» تتأمل هذه العلاقة الغريبة التي ركّز عليها الأدب قروناً
طويلة، واستساغها القارئ، وتربّى عليها، لتأكيد الفضائل؛ كالصبر والوفاء والحنكة على حساب الإنسان الذي تدوسه الظروف الصعبة القاسية الاستثنائية. وفوق ذلك، يضعه الأدب ـــــ لو
أحسنّا التأمل ــــ موضع الأحمق البليد؛ فبينما تقاسي بنلوبي العذاب يعيش عوليس مبتهجا، ويفعل ما يفعل ما دام محكوما بالعودة إلى العائلة. وعلى بنلوبي أن تصون العائلة فتضحي
بإحساسها وتستسلم للصبر وتعمل عملا عبثيا مكررا مملا، وذلك كله هو ما يمليه سرد العائلة التقليدي الذي انطلقت منه الرواية وتبناه السرد والأدب قرونا إلى أن صار بلا قيمة في عصر
المنافي وتقلّبات القيم والمفاهيم الذي نعيشه اليوم. وعفاف في «التانكي» لا تريد أن تكون بنلوبي الخرقاء، فتستسلم للظلم الذي تمليه عليها قيم مثل الوطن أو العائلة، أو الإخلاص لهما. إنها
تجازي الظلم بالظلم، والعداوة بالعداوة، وتكتب قصتها المختلفة. الإحساس بحجم المأزق تتسع الرواية عبر التأمل لتشمل مراجعة السرديات التقليدية المتواطأ عليها في مجال الأدب وقراءته.
وهي مراجعة ضرورية لفهم موقع الرواية الجديد في خريطة الأدب الحالي، ولإيجاد قاعدة تفاهم وتلق غير تلك التي أوجدتها النصوص القديمة، وما يُكتب على شاكلتها إلى اليوم، ولتحرير
القارئ من أوهام البطولة التقليدية، ومن سطوة القيم العتيقة، وصولاً إلى إنتاج سرد يعبّر عن مشكلات الإنسان المعاصر الذي هشّمت إنسانيته وهددت كينونته، الحروب وغزوات التشدّد
المتصاعدة، ومآلات الهجرة، فجعلته ريشة في هواء لا تملك إلا التشبّث بحقيقة أنها موجودة، ولا حقيقة أبعد من هذا، داعية القارئ إلى مشاركتها فعل التأمل والتقييم والإحساس بحجم المأزق
الذي يعيشه في ظل عالم مضطرب فكريا واقتصاديا وسياسيا، مشيرة إلى ضرورة الاحتفاء بقيمة العداوة؛ فهي القيمة الجديدة التي تنتج عن علاقات العائلة، المتصدعة، والقيمة القادرة على
إعادة التقدير للذات وتعزيز دورها في مواجهة موجات الانحناء الجمعي للمقدس والايديولوجي اللا-إنسانيين، التي تعبث بعالمنا المعاصر، وتقضي على فرص الحرية والحياة فيه. ولعل
عالية ممدوح من الروائيات القلائل اللواتي نقلن ببراعة سردية عالية قيمة العداوة من خانة السلبي والمرفوض إلى الإيجابي والضروري لإنتاج ذات، تتحلّى بالقدرة على الكلام والتأمل
والتفكير المتفرّد، والمواجهة، والانتصاف لنفسها من العالم والآخر القريب، وكذلك البعيد.