عالية ممدوح في روايتها الأخيرة التي دخلت قائمة «بوكر» القصيرة 2019
تواصل الروائية العراقية المغتربة عالية ممدوح في روايتها الأخيرة «التانكي»، التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة البوكر للرواية العربية لعام 2019، الانطلاق من بنية مكانية
صغيرة، لكنها مؤثرة وفاعلة، هي بنية المشفى أو المركز الصحي، حيث نجد بطلة الرواية عفاف ترقد في مشفى في باريس.
وهذا التواتر على اختيار المشفى بنية مكانية روائية في 3 روايات من روايات عالية ممدوح، هي: «التشهي» و«المحبوبات» و«التانكي» يدفعنا للحديث عن تشكل ثلاثية روائية في
ثلاث روايات من روايات عالية ممدوح، تتمحور حول بنية المكان الصغير المتمثل في المشفى الطبي، حيث تدور معظم الأحداث الروائية حول هذا المشفى أو داخله، وتستقطب شخصية
المريض اهتمام السرد والحدث الروائي برمته. كما أن هذه الروايات لا تتوقف عند الحالة المرضية للمريض فقط، بل تتعالق بطريقة واضحة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية في العراق من
خلال العقود الأربعة الأخيرة، مع تركيز خاص على فترة حكم صدام حسين والسنوات العشر الأولى التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وتبدو الحالة المرضية في أغلب
الروايات صدى سيكولوجياً وروحياً لتدهور أوضاع الفرد العراقي، وغياب الحريات وتدمير القيم المدنية واستشراء الاستبداد والعنف والتوتر الطائفي في العراق خلال هذه الفترة.
في هذه الرواية تكشف الروائية عالية ممدوح أيضاً عن نزعة نسوية Feminist واضحة من خلال جرأتها في كسر التابوات العرفية والاجتماعية والسياسية، ودفاعها عن حرية
المرأة في خياراتها الثقافية والأيروسية، وهي كما يبدو تحاول أن تكتب تاريخاً للمرأة متحرراً من هيمنة المنظور الذكوري المتسلط على الثقافة، وكأنها أرادت أن تطبق دعوة هيلين سيكسو
للنساء «بالتفكير في تاريخهن على نحو مختلف وأنه لا بد للنساء أن يخترعن تاريخاً آخر يكون خارج روايات السلطة واللامساواة والاضطهاد. (عالية ممدوح جريدة «الرياض»
بالسعودية، 20 ديسمبر «كانون الأول»، 2014).
ويخيل لي أن منحى الروائية عالية ممدوح لاختيار المشفى بنية مكانية غير بعيد عن أجواء رواية «المريض الإنجليزي» The English Patient الصادرة عام
1992، التي تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح عام 1996، إذْ تُستهل هذه الرواية بمشهد الممرضة الكندية الشابة (هانا)، وهي تقوم على رعاية شخص محترق كلياً بسبب سقوط طائرته
خلال الحرب العالمية الثانية، في فيلا مخربة في الريف الإيطالي مجاورة لأحد الأديرة الإيطالية، حيث تكتشف أن المريض فقد ذاكرته، ونسي اسمه، وراح يهذي، ويتحدث عن وقائع
وقصص غير مترابطة. ولأن الممرضة تجهل اسمه فقد أطلقت عليه اسم «المريض الإنجليزي».
ويبدو أن هذه البنية المكانية، وأعني بها بنية المشفى، راحت تستهوي عدداً من الروائيين العالميين كما نجد ذلك في رواية «المريضة الصامتة» Silent Patient تأليف
ألكس ميكايليديس، الصادرة حديثاً، وهي عن رسامة معروفة هي اليشا بيرتسون، تطلق النار على زوجها في ظرف غامض، وترفض بعدها الحديث، حيث تمضي ست سنوات في السجن
دون أن تنطق بكلمة، حيث يتدخل بعدها معالج نفسي فيقرر أن يخوض تجربة استنطاقها وإخراجها من عزلتها.
في ثلاثية عالية ممدوح ذات البؤر المكانية المشتركة المتمثلة في المشفى، نجد فيضاً من المشاعر الإنسانية المكبوتة، ومعاناة كبيرة، من جانب المرأة في الغالب، وهلوسات ونحيب وصرخات
صامتة تتطلب تعاطفاً إنسانياً خاصاً من لدن القارئ، الذي تبدو له مثل هذه الروايات وهي تجمع بين التحليل النفسي، والبحث البوليسي المنقب عن المسكوت عنه، والمغيب في سيرة
المريض الحاضر – الغائب. ونجد في هذه الروايات الثلاث حضوراً ضاغطاً وأحياناً مدمراً للواقع السياسي والاجتماعي الخارجي على الحالة النفسية السريرية للمرضى.
وتثير بنية المشفى، التي وجدنا لها أمثلة في الرواية العربية إلى ثنائية الداخل – الخارج التي تحدث عنها باشلار في كتاب «شعرية الفضاء» Poetics of Space الذي
ترجمه غالب هلسا إلى «جماليات المكان»، كما أن هذه البنية تحيل أيضاً إلى ثنائية فلسفية كبيرة هي ثنائية (الهنا – والهناك). (فالهنا) هو بنية المشفى، أما (الهناك) فتشير إلى الأسرة أو
المدينة أو العالم الخارجي. إذ إن المشفى يمثل من الجانب الآخر (الداخل) بوصفه بنية مكانية مغلقة ومحدودة وضيقة، في مقابل (الخارج) الذي يمثل بيت الأسرة والمدينة والفضاء
اللامحدود، وهو مفتوح ومتسع ولا نهائي (جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، بيروت، ص 192).
وقد فحص الفيلسوف ميشيل فوكو بنية المشفى أو العيادة الطبية دلالة بنية المشفى أو ما يسميها بالعيادة الطبية في المجتمع المعاصر، إذ يرى (فوكو) أن نقل المريض من بيئته الطبيعية، أي
البيت، والأسرة، إلى المشفى، يجعل المريض تحت تأثير سلطة جديدة. إذْ كان الجسد المريض يلتزم في العادة بيته، وكانت مهمة الأسرة احتواءه والعناية به، إلا أنه مع ظهور المستشفى كبينة
حضارية جديدة جرى استبدال الأسرة بالمستشفى.
ويخيل لنا أن انعطاف الروائيين نحو بنية المشفى في الرواية الحداثية، يعود إلى جملة عوامل، منها انتقال الروائي من مكانية الأسرة، في «الدراما الأسرة» حيث تتمحور الصراعات
والإشكاليات داخل أسرة معينة، إلى مكانية المشفى، في الرواية الحديثة بما توفره من أجواء من التواصل الإنساني والحميمية بين مجموعة أفراد يتحلقون حول مريض ما، في محاولة للتعبير
عن التعاطف الإنساني، وفي الوقت ذاته لتحقيق تواصل تفاعلي بين (الخارج) المتمثل بالأسرة وفضائها المفتوح و(الداخل) المتمثل في المشفى، بوصفه بنية مغلقة ومحدودة، شبيهة إلى حد
كبير بالسجن أو القوقعة التي تحيط بمحدودية الداخل – المشفى.
وفي استقرائي المستقبلي، أعتقد أن البؤرة المكانية للمشفى، التي كانت عالية ممدوح رائدة بالتبشير بها، ستكون بؤرة مركزية في روايات ما بعد جائحة كورونا، وذلك للدور الكبير الذي لعبته
في حياة الناس بعد حالات الإغلاق والحظر في حياة المجتمعات البشرية. وستولد من رحم هذه البنية المكانية المولدة شخصيات وحبكات وثيمات وبنيات جديدة، دون أن نفترض غياب
البنيات المكانية والزمانية الأخرى.
وإذا ما عدنا إلى رواية عالية ممدوح، فسوف نجدها تركز أساساً على بنية المشفى – الداخل الذي يفترض أن ترقد فيه الفنانة التشكيلية العراقية عفاف، التي اختفت أو ضاعت بين المصحات
والمشافي في باريس، مما دفع بأسرتها بصورة جماعية لتحشيد مجهوداتها للبحث عنها، ومعرفة سبب انقطاع أخبارها عنهم. وبهذا فإن بنية الداخل – المشفى هي التي تجذب إليها بنية الخارج
– الأسرة والمدينة بصفتها بنية جاذبة Centrifugal. ولكن علينا الاستدراك هنا إلى أن رواية «التانكي» قد كشفت عن بنيات مكانية بغدادية أليفة منها دار العائلة في حي
الصليخ بالأعظمية ببغداد وامتداداتها إلى بيت الطفولة في الوزيرية، بوصفه المكان الأليف، لدى بطلة الرواية (عفاف).
ومن الجانب الآخر، يمكن أن نلاحظ أن (الهنا) المتمثل بالمشفى هو الذي يستحضر (الهناك) إلى فخ الحاضر، بعد أن كانت عفاف قبيل رقودها في المستشفى في باريس تدرك أنها كانت بين
– بين، أي بين هنا وهناك في آنٍ واحد:
ففي حوار لها تخاطب المهندس المعماري معاذ الآلوسي، مصمم المكعب قائلة:
«أنا مادة خام موجودة، وأتحرك ما بين هنا، أو هناك، الأرض والسماء» (ص 48).
إذ نجد أفراد أسرة (أيوب آل)، وقد اجتمعوا جميعاً، وكأنهم يلتقطون صورة تذكارية مشتركة لطاقم الفيلم ويعلنون بصوت جماعي، عبر ضمير الجماعة (نحن) عن عزمهم على البحث عن
ابنتهم «عفاف» التي غادرت العراق إلى باريس للدراسة عام 1979، كما ستكتشف لاحقاً، أنهم قد خولوا السيد صميم بمهمة متابعة، قضيتها، وجمع المعلومات الضرورية التي أدت إلى
تدهور حالتها النفسية، والاتصال بالدكتور (كارل فالينو) الذي كان يشرف على علاجها النفسي في مشفاه في باريس قبل أن تغيب وتنقطع أخبارها.
وهكذا يضطلع السيد صميم بدور الراوي الرئيس للرواية، فضلاً عن الرواة الآخرين، لأنه مخول قانونياً من أفراد أسرة آل أيوب بجمع كل البيانات الضرورية والاتصال بالأشخاص ذوي
العلاقة وتدوين شهاداتهم.
وتتضح الطبيعة الميتا سردية، والبوليفونية (تعدد الأصوات) في كل النسيج الروائي من خلال قصدية الكتابة والتدوين، واستخدام الكاميرا.
وتستمر المؤلفة في الحركة السردية الأولى من حبكة الرواية الأولى التي استغرقت أربعة فصول والتي تمثل الصعود نحو الذروة Climax، في التمهيد في انتظار استجابة الدكتور
فالينو الذي بدأ بمعالجة الآنسة عفاف منذ عام 1986 في عيادته الخاصة بباريس: إذ يبدأ الدكتور (كارل فالينو) في الفصل الخامس من الرواية، وهي الحركة السردية الثانية في الحبكة
الروائية بالرد على تساؤلات أسرة (عفاف) التي تمثل كما يخيل للقارئ بداية انحسار الذروة الروائية، لكننا سنكتشف لاحقاً أن الذروة الروائية تستمر في التصاعد حتى النهاية، لتشكل نصاً
مفتوحاً على تأويلات لا نهائية.
وتتعامل الرواية مع التاريخ بحذر خوفاً من تزويره من قبل «ثعالب» التاريخ: «أظن ليس جميع ما نقرأه أو نحصل عليه من معلومات يبقى فوق مستوى الشبهات، ستبقى الثعالب، وهي
تسرد أحداث التاريخ تزور وتلفق». (ص 25).
ولذا فهي تعمد إلى تقديم قراءتها الخاصة للمدونة التاريخية، وربما محاولة كتابة تاريخ اجتماعي وحضاري بديل انطلاقاً من منظورات ما بعد الحداثة والنزعة النسوية.
– ناقد عراقي
https://aawsat.com/home/article/2324291/%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AA
%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%8A%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%81%D9%89-
%D8%A8%D9%88%D8%B5%D9%81%D9%87%D8%A7-%D8%A8%D9%86%D9%8A%D8%A9-
%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9