الكاتبة العراقية عالية ممدوح تفتح بروايتها ‘الأجنبية’ نافذة على تاريخ الفرد، وعلى معاناة المبدع عندما يُضرب في
أعز ما يمتلك: هويته.
العرب زهير الهيتي
برلين – بعد أن انتهيت من قراءة كتاب “الأجنبية” للكاتبة المخضرمة عالية ممدوح الصادر عن دار الآداب
البيروتية، انتابتني حالة من الذهول أو لنقل من غضب ممزوج بالذهول. عادة، بالنسبة إليّ على الأقل، تعني القراءة
المتعة، الجمال، التعلم، الدهشة من اكتشاف عوالم جديدة، وهذا ما منحني إياه الكتاب بكل كرم وأريحية لأنه كتاب
غير عادي بكل المقاييس.
تحت عنوان ” الأجنبية” وضع تعريف هو “بيوت روائية” وللحقيقة كان هذا التوصيف دقيقا جدا لأن النص متمرّد
على كل الأجناس الأدبية المُتعارف عليها مثل الرواية أو المجموعة القصصية أو سيرة ذاتية وغيرها.
كتاب “الأجنبية” يمثّل معاناة المبدع عندما يُضرب في أعز ما يمتلك: هويته! ومحاولة محوه من ذاكرة وطن حتى
تكتمل محاولة تفتيته! وكلّ غضبي بعد قراءته كان موجها نحو مجموعة من الصغار الجهلة، وسارقي البنوك وأشباه
المثقفين ومن لفّ لفّهم من سقط المتاع الذين ركبوا الدبابات الأميركية ليتحكموا ببلد مثل العراق ومدينة بحجم بغداد
بكل ما تعنيه جماليا وثقافيا وتاريخيا.
عندما انتهيت من قراءة الكتاب الجريء تداعت أمام ذاكرتي كوكبة غنية من مبدعي العراق ومثقفيه الحقيقيين الذين
سقطوا على أرض المنفى بقسوة تُفرح الساعين لمحو ذاكرة الوطن وتغيير هويته بأخرى مشبوهة، فماذا يكون
الوطن دون نخبه التي تصنع له المجد والوهج والتألق والمكانة!!.. هل نحن بحاجة إلى تعداد أسمائهم هنا أم أنهم
سيبقون بالذاكرة رغم كل الذي جرى ويجري منذ أن عُرض العراق في المزاد العلني الأميركي والبازار الإيراني!
„النص متمرد على كل الأجناس الأدبية المتعارف عليها، إنه معاناة المبدع عندما يوضع تحت طائلة الجهل
والقسوة والظلم والمرض والكراهية”
لكن ها هي عالية ممدوح، واحدة من رموز البلد الذين حُوربوا بشتى الوسائل تردّ على “موت” الوطن بكتاب رائع
وتعيد لنا الأمل، لتقول للجميع أن مثقفينا قادرون على الردّ بأسلحتهم الإبداعية، بالكلمة التي يمكن تحويلها إلى زهرة
في وجه القبح الذي يراد لنا كخيار أوحد.
تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية دون زيف أو تزوير، فالاحتلال لا يمكن أن يكون “تحرير” أو ما درج المناضلون
السابقون على تسميته بـ”التغيير”.. الاحتلال والمروّجون له قطعة عفنة من تاريخ الوطن. تقدّم البارعة عالية
ممدوح من خلال هذا الكتاب بأسلوب شيق، مرح، رشيق يشبه الرقص رغم ألم ووجع المواضيع التي تناولتها، أثرا
يُغني أرشيف الوطن المُغيب ويثير زوبعة من الأسئلة الوجودية التي تتعلق بمواضيع شائكة ليس من السهل أبدا
تناولها في كتاب واحد مثل الهوية، الوطن، العناد على الفرح، الموت، الصداقات الحقيقية، المرض، الخيبات
والحب!
إنها تفرك على محك سيرتها كلمات علق فيها الكثير من الغبار والكلس.. تغسلها، تشطفها، تعيد تلميعها، باعثة فينا
أسئلة عقربية تجبر قراء هذه “البيوت الروائية” الواقعية على إعادة اكتشاف سحر هذه الكلمات عندما تبدأ
بالاستخفاف من القوانين الرجعية التي لا تجاري كرامة الإنسان المُحتفى بها في كل العالم والتي وقعت تحت طائلتها
القانونية ألا وهو قانون بيت الطاعة.. فهل يمكن تخيل المشهد السريالي عندما تستلم امرأة تعيش في باريس أمرا
صادرا من المحاكم العراقية عن طريق السفارة لإعادتها إلى بيت الطاعة!!
وليس هناك أجمل من تعليق صديقة الكاتبة السيدة نهلة الشهّال عندما أطلعتها على فحوى الأمر الصادر من المحاكم
العراقية.. “أنتم العراقيون تغرمون بهذه الطريقة الفاجعة. نعم، الرجل يحبك بالعنف العراقي المعهود نفسه منذ أيام
السبي”.
أكاد أجزم بأن كُل الذين يعرفون الكاتبة بصورة شخصية قد صُدموا أو على الأقل الكثيرين منهم، من حجم المعاناة
التي مرّت بالكاتبة والتي لم يلاحظوها عليها لأنها ببساطة لم تمهد سبيل الوصول إلى صندوق أسرارها الذي دفنته
جيدا في أعماقها بعيدا عن أعين الفضوليين والشامتين، وحتى عندما قررت فعل “الإشهار” من خلال هذه السيرة
اختارت الابتعاد بكبرياء عن البكائيات واستدرار عاطفة القارئ فهذا آخر ما فكرت فيه عندما قررت أن تخوض في
سيرتها في العلن..
عالية ممدوح إنسانة كتومة في العادة بما يخص حياتها الجوانية، صارمة في تحديد جغرافية علاقاتها الإنسانية،
تطرح أفكارها بجراءة وبراعة ولا تخاف لائمة لائم أو عتب أو حتى قطيعة، وهذا ما يجعلها شائكة بل أحيانا تبدو
عدوانية، لكنها تفاجئنا في “الأجنبية” وبصورة مغايرة ومدهشة وبكثير من الإنسانية.
فهي هنا امرأة من الممكن أن تبكي بوجع، وأن تضحك بشكل هستيري، قابلة للكسر، دلوعة ومغناجة، ممكن أن
تضعف وأن تخطئ. أحد الذين وردت أسماؤهم في السيرة وصفها بدقة بـ”الفاتنة المغرورة”. رتبت صاحبة “غرام
براغماتي والنفتالين والغلامة وغيرها” بيوتها الروائية تحت أسماء موحية مثل بيت الطاعة، بشاشة الخوف، بيت
الثمالة، مصابيح كافكا، الطرد من الجنة، إلخ..
وابتعدت عن السرد الطويل، رشقتها حتى لا تصيب القارئ بالملل الذي يصاحب عادة كتب السير الذاتية، كما لم
تستغل الفرصة لتجعل من تاريخها فرصة لتصفية الحسابات مع فلان أو علانة.. فتحت لنا النوافذ لنطل منها على
جزء من تاريخ الفرد، وتاريخ البلد الذي يبعد يوما بعد آخر. في فصل “بيت الثمالة” طرقت الكاتبة بابا كان إلى حدّ
الآن محظورا، لكنها قررت أن تقول ما تعرفه عن طبائع العراقيين التي يحاول “صُناع” الأخلاق الذين ابتلينا بهم
إخفاءها خلف جبل الأكاذيب الذي لا يتقنون سواها “الاختلاء بالكأس والخمرة. هو الأمل بالسكْر. هو بلوغ تلك
البلبلة التي تتجاوز لون السنجاب أو موضوعة الخلود. ما شأن العراقي بجميع الطوائف والمذاهب؟ تلك أبدية لا
علاقة له بها.
تلك تنقش الموت وهو لا يريد إلا هذه الدنيا.. الخمرة هي نشيد الأناشيد وأصل الملاحم والسير وهي مرارة تعاقب
الحضارات يقيس بها العراقي المثل الأعلى وتعدّد السلالات بعدد الأقداح”.
عالية ممدوح تعيد إلينا في هذا الكتاب روح التسامح التي تناسيناها في زحمة ووعورة الطريق نحو القسوة التي
اخترنا المشي فيها خلف أئمة وسدنة الكراهية.
15/01/2014، العدد: 9439