تبدو الكتابة في روايات بعينها وكأنها ملء فجوات تمرّ منها الريح الباردة في جدار العمر، أو كأنها تخلّصٌ من بلغم يملأ فم الروح. وأظن أن هذين التوصيفين ينطبقان على رواية “الأجنبية” للروائية عالية ممدوح، الصادرة مؤخراً عن دار الآداب البيروتية، بطبعتها الأولى 2013.
مغوية هي كتابة “السيرة الذاتية” عبر جنس الرواية. لكن، بسبب كثرة المتداول منها عالمياً وعربياً، والذي وصل حد التخمة، أصبح على الروائي الذكي السير في درب الحذر والحيطة لحظة مقاربة هذا الجنس، وإعادة التفكير مرات ومرات، للعثور على جديد يخصّه، ويكون إضافة لهذا النوع من الكتابة.
عالية ممدوح، في روايتها “الأجنبية”، تكتب سيرتها الذاتية، لكنها، وبحرفية لافتة، تجعل هذه السيرة الخاصة جداً مشاعاً إنسانياً لكل من تمرغ في وحل وطين الغربة، وخمش الخوف وشوّهت أنيابه وجه روحه، وظل متسلقاً لسنوات وهاد وهضاب الوجع، يحمل على ظهره ثقل حلمٍ لا يتجاوز حصوله على جواز سفر أجنبي يضفي شيئاً من الإنسانية إلى وجوده البشري.
وحدها الأوراق الثبوتية القاسية تعطي وجودنا معنى، وتجعل الآخر يتعرّف علينا، ويعترف بنا. وبدون هذه الأوراق لن نكون، حتى لو ملأنا العالم صراخاً وبكاءً وحزناً وكتابة!
“الأجنبية” ترصد بصدق حياتي وفني متناهٍ رحلة امرأة كفرت مبكراً بالسائد الأسري والاجتماعي في حي “الأعظمية” في بغداد حيث مسقط رأسها. وأرادت لحياتها أن تكون وفق بوصلة قلبها ووجدانها، وانتهى بها الأمر ريشة تلعب بها ريح الأقدار الموجعة، فتفرض عليها أن تعيش زمن الترحال والوحشة والغربة والألم والخوف، وتضطرها حياة الغربة الأمدية لأن يكون بيتها الأول “بيت النمل” هو متنفس حياتها، تحمله على كتفيها وقد هدّلهما الزمن، وتجعل من حيطانه البائسة وشخوصه الحية، عالماً نابضاً بالحياة، يأبى ويتآبى على السنوات والشيخوخة، ويبقى حياً حتى بعد أن تموت هي!
تصطحب عالية ممدوح قارئ روايتها لرحلة حياتها بأدق تفاصيلها عبر صيغة ضمير المتكلم، ومن خلال لغة حميمية يختلط فيها البوح بالأسرار بالبكاء بالخوف باليأس بالغربة بالتعب بالمرض بالخيبة بالغبار، ووحدها الصداقة تكون الملجأ في كل حين. عالية ممدوح تسرد سيرتها الذاتية، لتزيح اللثام عن سيرة المرأة العربية بوجعها الدائم المستديم. بظلم الرجل/الزوج، وظلم المؤسسة الأسرية، وظلم المجتمع الذكوري، وظلم المؤسسة الرسمية، وأخيراً ظلم بلاد الحرية/فرنسا. ظلم لامع باسم متجدد، لا يحده حد، ولا يستوقفه حدث.
“الأجنبية” سيرة جيل من الكتّاب العرب، نساء ورجال، في وجع هروبهم من بلدانهم، وتغربهم في شتى بقاع الأرض، عربية وأجنبية، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض. في وصلهم وإخلاصهم وكذبهم وتخوينهم، وفي إصرار الخوف والألم على العيش ناهشاً في لحم أرواحهم! والرواية في رؤيتها الأعم، هي كتابة لمواجع إنسانية لملايين البشر يعيشون في محنة البحث عن أوراق ثبوتية، تمنحها إياهم دول ديمقراطية بحيث تضفي على وجودهم الإنساني الشرعية، مقترنة بفرصة عيش حياة بسيطة لا يتعدى طموحها سقف وأمان!
بالنسبة لقارئ خَبَرَ كتابات الروائية عالية ممدوح، فإنه سيكتشف منذ الصفحة الأولى لـ”الأجنبية” لغة بنكهة خاصة، يختلط فيها الصدق بالجراءة بالفلسفة بالوجع: “الخوف شيء حقيقي، مثير، بديهي، متحوّل، متنوّع وملتبس، لا يهجرنا في أثناء التحصيل العلمي أو الوصال الجسدي ولا يمتلئ أبداً” ص50
“الأجنبية”، وهي تعرّي سوءات الحياة الآدمية، فإنها تُعلي من شأن الصداقة ككتف حنون، والكتابة كملجأ لمن لا ملجأ له: “أزعم أن التأليف هو الذي أصلح وما زال حالي وحال صحتي وتقويم تأتأة لساني الشخصي أفضل من جميع تجارب الحياة والمعيش اليومي المدجج بالكثير من السفاسف والتراهات” ص21
الجريده الثلاثاء 22 أكتوبر 2013