في كتابها الجديد «الأجنبية» الصادر عن دار الآداب في بيروت، تتابع الروائية العراقية مسارها بين الإقامة والترحال وبين بغداد وباريس، وتلقي الأضواء على تجربتها كأجنبية مع ما تنطوي عليه هذه الكلمة من مواجهة مع تبعات الهجرة من الأوراق الثبوتية واللغة إلى مخلَّفات الانتماء إلى وطن عانى ما يعاني، ماضياً وحاضراً. ولا يخفِّف من هذه المعاناة إلاّ بلسَم الصداقات التي تعبّر عنها الكاتبة بكثير من الوفاء والحبّ لدرجة يصبح معها الكتاب، في أحد وجوهه، وكأنه احتفال بالصداقة.
عن كتابها الجديد وعن معنى الإقامة بين الوطن الضائع وتشتُّت الغربة، كان لـ «الدوحة» هذا اللقاء:
™ هل أردت في كتابك الجديد «الأجنبية» تصفية حساب مع معاناة الغربة، ومن خلالها معاناة الوطن على حَدّ سواء؟
– لا أفضِّل أي نوع من أنواع الكتابات الثأرية أو تصفيات الحساب. إنني اتدرَّب يومياً وبالمعنى الحرفي، كيف أكون أكثر رحابة مما أنا عليه. إن العيش في الترحال الطويل يجعلني أقوم بإزاحة حتى الجذور عن مواقعها. وذاك الشقّ في الروح أسير وراءه لكي لا يأخذني إلى التأثيم والانتقام. إن الحياة جدّ قصيرة، ولا تستحق إلا عيشها ولو بقفزة واحدة قد تؤدّي إلى الحتف، وربما إلى السير في طريق البهجة والمسرّات وهذا ما حاولت في كل حياتي.
™ ما هو تصنيفك لهذه الكتابة التي تبدو في ظاهرها سيرة ذاتية، لكنها تذهب أبعد من ذلك؟
– هو كتاب يحاول أن يجرف ما كتبت من قبل، ويؤسِّس خطاً بوصايا من داخله، لا من الماضي ولا من المستقبل. كتاب أردت أن يغادرني إلى أصدقائي الذين بدأت بقسم منهم في رواية «المحبوبات»، لكنهم هنا حضروا بالأسماء الاعتبارية والشخصية، فهم جزء من تلك الأقلّيّة التي كنت أتصوَّرها هامشية، وإذ بها تظهر في غالبيتها من الأجانب. هكذا أرى الأمر، وبهذا المعنى كانت الصداقات التي أقمتها هنا وفي باقي أنحاء العالم، هي الرافعة الإنسانية والثقافية التي حمت هشاشتي، وقوّت معنوياتي، كنت وما زلت محظوظة بصداقاتي، وعليَّ الاعتراف والفخر بذلك.
™ هناك حيِّز بارز تتحدَّثين فيه عن علاقتك بالكاتبة الفرنسية ايلين سيكسو التي سبق أن أبدت إعجابها بنتاجك، وهي التي قدّمت رواية «الغلامة» التي صدرت ترجمتها عن دار «أكت سود». كيف تصفين علاقتك مع هذه الكاتبة؟
– أهديت لها روايتي «المحبوبات» الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للآداب لعام 2004. يوم كتبتها كنت أعيش في منحة خاصة ولمدّة عام في حيّ الفنانين المجاور لمركز «بومبيدو». كان البرلمان الأوروبي للكتاب قد منحها لي، وكانت سيكسو إحدى عضوات هذا البرلمان. أصلاً لم يخطر ببالي أن الرواية ستفوز، لكن الإهداء كان قد تقرَّر بيني وبين نفسي. كانت «المحبوبات» تعمل لصالح صيرورة الصداقات التي لم ترتبط بأيّ لون أو دين أو معتقد أو جغرافيا أو تأريخ، وفي أحد المؤتمرات في لندن وأمام جمهور حاشد قالت بصوت فصيح، وبعد كتابة مقدِّمتين لرواية «النفتالين» ورواية «الولع» الصادرتين عن «دار الآداب»: «إنني أدعوكم لقراءة فلانة بنت فلان…». وبدأ أحدهم يسأل الآخر من تكون هذه العراقية؟ هي لم تخبرني قطّ. وحين بدأت بشكرها أوقفتني عن الكلام. هي إنسانة ومفكِّرة، ومسرحيّة، وناقدة، وروائية، ومثقَّفة، وصديقة استثنائيّة باهرة في الدفع والعمل لصالح نظام حقوق الإبداع، وازدهار المواهب وابتكار طرق في تسليط الضوء على العمل الذي تراه يستحقّ دون تستُّر. لقد قدَّمتني إلى القارئ البريطاني والفرنسي والأميركي. وليس غريباً أن يسلِّمها جاك دريدا شعلة الكتابة والفكر من بعده لما تحمله من إبداعات متفرِّدة وفذّة.
™ بين الوطن الضائع والتشتُّت في الغربة. أين تجدين نفسك؟
– من لا يخسر لا يربح. خسرت بيت الزوجية. لاحقت ابني كما هاجر لاحقَتْ وليدها بحثاً عن قطرة ماء، لكني لم أعش بجواره وجوار حفيديّ، فقوانين الأبناء قد تكون أقسى من قوانين بعض الأزواج. إنني امرأة كادحة بالمعنى الحرفي، ومنذ سنّ السادسة عشرة وإلى هذه اللحظة، وبعد كل هذه الأعوام من التأليف وإصدار الكتب أشعر في بعض الأحيان أن الكتابة هرست لي حياتي، كنت أريد حفنة من الأطفال، آه، اليوم أشعر بهذه الحمّى. ووحشة الوحدة تفصلني عن أسرة ابني آلاف الأميال، حتى ولدي لم أقم بأصول تربيته كما يجب. تحمَّل المسؤولية مبكِّراً وهو طالب في المدارس الداخلية، ثمّ الحياة في بريطانيا، وبعد ذلك، العمل والعيش في كندا. أما الإبداع فهو أمر جدّ شخصي، وهو غامض وشديد السرّيّة، ملتبس ولا يعني أي شيء للملايين من البشر من حولنا. شخصياً إنني هناك وهنا، وبسبب كل هذا لم أشعر أنني بدَّدْت حياتي عبثاً. لقد استمتعت بأقل من القليل الذي كتبت، وما عشت، لكنني أشعر أنه ناقص، هذا النقص. واللاكمال هو عدّة هذه «الأجنبية» وعتادها.
™ تركت العراق عام 1982 ،وتنقَّلت بين مدن عدة. وأنت اليوم، ومنذ سنوات طويلة، تقطنين في باريس، لكن كتاباتك تهجس في معظمها بالعراق كأنك تعيشين في العراق، لكن من مكان آخر. كيف تنظرين، الآن ومن هذا البعد، إلى وطنك الأم؟
– في كثير من الأحيان أتوصَّل إلى هذا الرأي المهذَّب بالوطن: إن بلداننا ليست في حاجة إلينا. ليس له هدف، هذا العراق، إلاّ طردي منه وتجريب كل الطرق الكاسرة لتطهيري من مائه. في كل كتاب دوَّنته كنت أتدرَّب على فكّ الأسر من تلك البلاد والتعلُّم يومياً كيف أمسح آثار أقدام ألوف البشر الذين خاضوا للرُّكَب في نهريه العظيمين، ففقدناهم ما بين البطش والاستبداد والبشاعة. من هنا يكتمل يتمي التام الذي عشته وما زلت.
™ يقول أحد الكتاب إن الكاتب يعيش في اللغة التي يكتب بها. هل أنت تعيشين في باريس عبر اللغة العربية؟
– هذا صحيح بصورة أدبية، إن الكاتب يعيش في اللغة التي يكتب بها، لكن الدماغ البشري ينشر ما لديه من نظام تصويري على مائدة خارقة، اللغة أحد الشهود، لكن هناك فتنة الروائح التي تهبّ فجائياً، وتناجيك بالصور، وهي لا تمحى حين تقوم ببرمجة العطر داخل صورة ما، مثل صورة الحداد على الجدة، أو تلك الصورة لعرس والديّ وهما بثياب الزفاف. هذه، تحديداً، تبقى خارج سياق أية لغة، فلم أقدر على تدوينها في أية رواية كتبتها، فما إن أبدأ حتى أتشتَّت، لذلك وضعت الصورة أمامي على الرفّ الأعلى أطلّ عليها يومياً. الوالدان: الأم من سورية، والوالد من العراق، وأنا تلك العزلاء المحاصرة، ما زلت بينهما…
™ في كتابك «الأجنيبة» تتحدثين أيضاً عن صعوبة تعلُّم اللغة الفرنسة. ما الذي يقف عائقاً دون هذه اللغة؟
– اللغة الفرنسية أشعر بها مزدحمة بين لهاثي وحبالي الصوتية، فجأة أريد الصراخ وإطلاق بعض الأغاني بها، لكني سرعان ما أشعر بالتأتأة في لساني العربي والعراقي حتى. أدري أنها تحبّ الظهور، فهي لغة مغناجة وتريد من الآخرين امتلاكها فعلاً، لكن اللغة، أية لغة في العالم، ليست هي فقط المحادثة والقراءة، أو كل هذا وغيره، هي نظام شديد التعقيد، فأشعر أنها تغادرني قبل أن أغادرها نتيجة ظروف حياتي التي أعيشها في شبه العزلة، لكني ما زلت أحاول وبجهاد مستميت، وإلى هذه اللحظة…
™ في الفصل الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان «بيت الطاعة» تروين زيارتك للقنصلية العراقية في باريس في منتصف التسعينيات لاستلام رسالة وصلتكِ من زوجك المقيم في العراق يدعوك فيها إلى بيت الطاعة. هذه الواقعة وغيرها من التفاصيل التي تطالعنا في كتبك ورواياتك تعكس النظرة الدونية إلى المرأة في العالم العربي. كيف تختصرين هذه النظرة من خلال تجربتك الشخصية؟
– كتابات المرأة العربية قدمت حيِّزاً مثاليّاً للحوار مع الذات الخرساء الأولى، أعني المرأة. عليها أولاً أن تخاطب نفسها، وعليها التقاط صوتها الجوّاني الذي لا يعرفه أحد غيرها. نحن- الكاتبات العربيات- كلّ على طريقتها، حاولنا ذلك. لم نكتبه كحوار بين أموات وأحياء، ولا يعني أننا أصبنا الهدف تماماً. من جانبي، أحاول في كل عمل أن لا أدع الكتابة عن موضوع شائك واستفزازي يعالَج بصورة تبسيطية أو اختزالية: أن أَضع نفسي أو أَضع الزوجة في موقع الشهيدة البطلة، فهذا كلام أبله. جلادون نحن بمعنى من المعاني، زوجات وأزواج، وكل منا له منطقه في الاستبداد وحيِّز طبيعي نتحرَّك وسطه. بعضنا يدّعي الرقّة والبراءة، وأنا لست منهم. نعم، كزوجة وقع عليها بعض الضرر، لكن النساء يمتلكن آليات من القهر لا مثيل لها، فنحن جميعاً نعيش وسط منظومة ثقافية واجتماعية وسياسية هائلة الاشتباك، وقد تكون الطاعة مجداً للرجل، ورفضها من قبل المرأة ليس دائماً يقتضي وحده الاستحقاق، فهناك استحقاقات كثيرة تنتظرنا.