أقودك إلى غيري – قصيدة طولها 340صفحة

عالية ممدوح

1-
“تلك الليلة التي توجتها” طاولة الأرواح “جذّرتني في علاقتي بنورس، وكانت انبلاجا امتصني بكاملي ولكاملي، وعرفت أنني معه سأجد كل ما لا أنتظره” الشاعرة والمترجمة والروائية السورية عائشة أرناؤوط في روايتها الأولى الصادرة عن دار كنعان بدمشق (أقودك إلى غيري) تخترق شبكة حيوات، علاقات، أمكنة، كائنات وأزمان بكثافة شعرية شديدة الجمال، من النادر وفي رواية أولى أن تقدم كاتبة نهجها الخاص في جنسها السردي وتحيل أيضا إلى اجناس سردية عدة . يحصل هذا في الروايات التي تكتبها كاتبات مسكونات ببلورة فكرة الوجود بذاتها قبل بلورة أفكار الأنثى، السياسة، الغرام، الفنون بأسرها . عائشة درست العلوم وعاشقة للرياضيات وعلاقة العناصر بعضها ببعض . والبشر لديها لا يملك ابعادا معينة فهو في جميع الاحوال كون لا متناه : “الحواس تتواشج بغبطة الاحتواء، اللازمن يتمدد إلى ما لا نهاية” تكتب بهدوء وعزيمة، وتقريبا ببرودة عن الحرائق والزلازل والكوارث . هدوء يشبهها تتصرف داخل النص كغيمة سوف تزخ ندى وترحل عائدة لمحيطها الكوني . عائشة رقيقة كرجفة الهدب وحين غادرنا رفيق عمرها ورفيقنا الفنان التشكيلي صخر فرزات قبل شهور بميتة فجائية مباغتة وقاتلة لنا جميعا، نحن الصديقات والأصدقاء لجأنا إليها بانتظار أن تواسينا . هذا الأمر هو الوحيد الذي كان ممكناً لي، على الخصوص، إن صداقتي مع هذين الجميلين كانت غائبة فما أن استرددت صخر حتى فقدته . يومها كتبت كثيرا وطويلا لكني شعرت أن موته كان خط هروب لجميع ما أنوي تدوينه.

2-
“نورس” في هذه الرواية به من صخر المشرع لرذاذ البحر وسياط الشمس وجنون الصعلكة وعشب الألوان به بذرة المغروم باستمرار ولمريم الراوية خصوصية العشق ومغامرة الوجد وشهوة الرحيل ما بين دمشق وباريس، بين تحولات الطفولة واستحضار قرين لمريم تطلق عليه اسم ساروس، هكذا كأنه كوكب جديد تدخله مريم وربما لن تعود منه سالمة . هذا القرين يحادثها طوال الرواية حتى ليشعر القارئ أنه في الخطوة القادمة سوف تكشف سره الراوية لكنها تدعه يذهب بالاتجاه غير المتوقع، توفر هذا القرين داخل الرواية كان شديد الأناقة، ناضجا ومتجاوزا، تصغي إليه الراوية في الكوارث وتقرير المصير لكن لا أحد يراه بالطبع إلا هي فهو الأنا المتجددة المتحولة المتعاقبة البنائية التي تريد الايجاز لكنها لا تأخذ أي طريق سبقها إليه الغير : “كنت أترك للآخر على الدوام حرية القرار في إطلاعي على أشيائه أو البوح بسرّه، وقد أضفت تلك الصفة إلى ما تعلمته من أختي لطيفة فيما يخص الاحتفاظ بالسر”. على مدى 340صفحة من القطع الكبير وبفصول استبدلتها المؤلفة بالعناوين الباذخة بدلا عن الأرقام “الأصابع المرتعشة”، “الوليمة الطوطمية”، “الهدية التي لن يفرح أحد بها .. و إلخ السرد يتحرك في أرض حرثت جيدا بسماد الطفولة والصبا وأول الشباب إلى هذا العمر المحبوس بين ضلوعنا . ما بين دمشق وباريس في الوقت الحاضر، انتقالات لا تتعلق بالتاريخ أو تطور الحنين في بطن الأمكنة فهذه رواية ضد الحنين تماما هو أمر تلاحقه فيصير أمامك يبدع عناصره ويطفح بالشعر . هذه رواية كأنها كتبت لذريعة واحدة أن تكون قصيدة طويلة بقدر عدد صفحاتها”.

3-
“أصعب عائق علينا اجتيازه هو الذات” الوالدة في الرواية مايسترو بيده خيوط البيت والأبناء والبقرات والحقل والأصوات والكلام والصمت ومريم الشخصية المركزية والراوية كانت تنزلق في خطوط هذيانية عاصفة ما بين البغض والشغف لهذه الأم. مثلنا جميعا، مثل كل البشر في إحدى سنين العمر تشكل تلك العلاقات مدوناتنا ومخطوطاتنا السرية والعلنية ما بين الوالدين والأبناء فننتج لهم وعنهم تلك الرنات التي قد تسمع عالية أو تلقى بتمهل شديد كما في هذه الرواية: “كنت أكرهها بقدر ما أحبها بغتة تتوهج في رغبة هائلة بنزع البرغي وتحرير الذراع لضربها على رأسها. كانت الرغبة تتآكلني بشراسة . هل كنت أكرهها لتربيتها الصامتة الأشد قسوة من التهديد والضرب والتعنيف”؟ ينبغي التصفيق لأمهاتنا وآبائنا، ينبغي استخدام جميع تلك الضمائر في الكتابة وما ينوب عن الجميع باللسان الفصيح لكي نخترع لهما سردا نتفوق به على تعاسات الأبناء من جراء أولياء الأمور . أظن أن الأبناء، أي – نحن – الذين نبتكر للوالدين سجلات حديثة من مروحة عريضة في طرفها الأول التسامح وفي وسطها التلعثم والدمدمة وفي آخرها البغض والقساوة. فعماد الشقيق الحر المتحرر الذي درب مريم على تلمظ مجرى أنهار الحرية كما هو أخي علي . أصغى لها وهي تلقي قصائدها أمامه، هو الذي قدمها لعالم دمشقي كان يتشكل ما بين الفنون قاطبة من المسارح الناهضة والعمارة والفنون التشكيلية والكتابات الجديدة دمشق كما بغداد والقاهرة وبيروت كانت تتوفر على مناخ هائل من المتغيرات وكان ينمو وسط كل هذا مخلوقات تريد تغيير العالم وبالتالي ان يكون كل شيء في حوزتهم وهم ما زالوا في أوائل العشرينات.

4-
“تم افتتاح معرض شقيقي عماد في صالة الفن الحديث . كان أول معرض تجريدي كامل يقام في دمشق ولهذا أثار حينها بلبلة في الوسط الثقافي. حدثني أخي مطولا عن حاسة الرؤية الصامتة المتحررة من كل تعبير أدبي”. وأنا أقرأ أعرف أن عائشة تدون عنّا كلنا، عني وعن أولئك الابالسة والمتطهرين بجرأة لافتة وانتباهة لجميع تفاصيل الجسد وخصائص القبلة الأولى والوصال الأول . يارب العالمين، كانت عواصمنا العربية مترعة بالعشاق والصعاليك والشعراء الملعونين، بحرية غير منتحلة ولا ملفقة . تماما، السياسة والفساد والاستبداد افسدوا كل شيء، بمعنى، حين هيمنت الهزيمة في حزيران كانت الحركات الثقافية والمثقفون في عموم العواصم العربية في حالة مزدوجة ما بين خط هروبي للغيبيات أو التيه الطويل بالانتكاس الذاتي. كل شيء على الحافة ويستدرج الفنان ولذلك، هذه رواية كما رواية الاردني المبدع إلياس فركوح تتحدث عن تلك الانعراجات الكبرى في الروح أولا وفي المجتمع وجميع ما يجاورنا: “كان علي أن أنفرد بنفسي قليلا، بعيدا عن كل ما يمكن ان يعكر لحظات يأسي الكامل كوجود كان يأسا نقيا وصافيا كبلور، يأسا سائلا عذبا كماء المنحدرات، وأي حدث من هذا النوع قادر على تشويهه” تقنية جميلة، الشخصيات في صيرورات مسؤولة، لا أحد ينوب عنها ولا تتحدث بلسان الا لسانها . الرجال لطفاء حنونون، خياناتهم غير متعذرة والنساء عذبات لهن المشهد في الكتابة والاستقلال الاقتصادي فجميعهن يعملن بكدح حقيقي ويدرسن ولهن إبداع في بقعة ضوء ما . كلهن قلن لا أو تدربن على هذه الضدية كنوع من عصيان الكتابة والمسؤولية ذاتها. لا أحكام أخلاقية، لا هيمنة للذكور على الإناث ولا كتابة ثأرية من هذا أو تلك. أحيانا الأم – الأنثى تبدو جبارة، بدت لي كما هي جدتي، جبروتها مشترك لدى جميع الأمهات والجدات فليس دقيقا أن الآباء وحدهم يحملون هذا اللقب. فأشعر في كثير من الأوقات، أن بعض أمهاتنا فاشيات أيضا أكثر من الآباء. في الرواية صفحات بها اشراقة حب يشتهي المرء أن يدركه لكي تصير حياتنا أغلى: “كان نورس عاريا معي بقدر ما كنت معه . كما لو اخترنا العري مسارا لتحقيق صيرورتنا المقبلة، جنوني الحذر كان صورة لجنونه الشاسع . جراحنا المفتوحة تغفو تحت لمساتنا الشافية، أكنت أخشى العافية الروحية معه ؟ وهل كنت أستحقها”.

الخميس 24 شعبان 1428هـ – 6 سبتمبر 2007م – العدد 14318
https://www.alriyadh.com/277714