«سأحبك دائماً»

عالية ممدوح
1
كان عليها ان تغادر فقد بلغتْ سن الموت . ويتني هيوستن ومع عينيات بشرية مبثوثة في الاكوان يحملون هذه البذرة ؛ التدمير الذاتي بطقس عدمي ، وما ان تستدير وإلى أية جهة حتى تواجهها غلظة الدنيا فتمسك وتبطش بها. هيوستن كانت تفشي اسرارها في كل أغنية وكلما تتضاعف سلطة الشهرة ، شهرتها حتى تتضاعف العتمة من حولها فالشهرة لا تبعث على الطمأنينة فهي سرعان ما تتراجع، وصاحبها يدخل في الخفاء . سطوة المشهور ان يكسوه الضوء ، يغطيه من أول خصلة في رأسه وإلى ذيل الفستان أو السروال. الشهرة في اغلب الأحيان وضمن الماكنة الأمريكية الفاجرة بالذات لا تثق بالمشاهير كثيرا فتقوم وعلى عجلة بتغييرهم والتخلص من بهائهم فتسدل الستارة وباحكام ولأي سبب : جريمة حقيقية أو مفبركة ، التعاطي بالمخدرات ، الهشاشة العاطفية ، الجروح الغرامية والجحود العائلي الخ ، فتتحرك النار ويتطاير الشرر فيدخل هذا المشهور ، النجم والكائن الضال إلى المكان الخطأ . شاهدتها أمامي في احد اللقاءات حين سئلت : أي الأنواع كنت تتعاطين ؟ اجابت ؛ كلها ، جميعها وبدون استثناء . ثم أضافت : لا أريد ان اكون رقم 2 . حسنا ، ان كان في المستطاع ان يبقى المرء في الخانة الأولى فهذا أمر باعث على الريبة أيضا.

2
الكوكايين والماريوانا ، الكحول والعقاقير التي وصفها لها الطبيب كلها تركز تفكيرها عليها لكي تتمالك ذاتها ، ان تحتمل نفسها . وهذا النوع من اختلاط الكحول والمخدرات يدفع بالانسان إلى التدهور الأسرع نحو الهاوية كما نقرأ ونسمع عن البعض من المشاهير في الفن والإعلام ، في الرياضة ، وماردونا الجني الذي لا يتكرر ما زال ماثلا أمامنا وكيف اندحر وانحدر وتلاشى . يبدو الأمر لنا نحن الذين نرقب هؤلاء في ذلك الجانب من العالم ان المباراة والمنافسة ، الجولات والجري أحيانا حول الضوء لا يخضع لقواعد أو طقوس معينة ، فكل شيء يجوز فليس هناك من تناقض فالضوء دائما ناقص في شحنته الكهربائية حتى يأخذ بعضهم بالصعقة التامة ، ودائما يتصور المرء ان ذلك لن يكون كافيا ، وعليه لا بد من ضحية تدعى ؛ مارلين مورنو ، جميس دين ، الفيس بريسلي ، جون لينين أو ويتني هيوستن الخ. يبدو ويصير الكائن عدوا متفردا لروحه فيدخل في جولات ما أن تبدأ بالكحول أو الماريوانا أو .. حتى يبدو الأمر وفي الغالب الاعم هو التعويض المراوغ لحالة ، لحالات من الاضطرابات والارباكات والصراعات البالغة الخطورة تحصل ولا تقدر هذه أو ذاك البقاء خارجها لكي لا يتأذى ، لكي يقوى على النوم وبالدرجة الأولى . هكذا يصير التعويض القوة القاهرة حتى يتم الفتك التام بصاحبها بدلا من ان يكون العكس تماما.

3
الضوء الشديد وفي غالب الأحيان يسبب انفصاما فيقول المرء لنفسه : عال ، دبر أمورك جيدا فهذا أو ذاك ومن يدخل الحيز المثالي للتصدع فلا يعود إلا خارج المكان ، لا يشتغل أو يعمل ، او يحصل على أية ضمانات . هيوستن في احدى الفترات بدأت ببيع مقتنياتها ، جوائزها ، أثاث منزلها ، مجوهراتها لأن شركات الانتاج ، وبسبب الفضائح والخراب مع زوجها نفضت يدها عنها ولم تدفع لها مصاريف مشافي العلاج من الادمان التي دخلتها وخرجت فعادت حتى وصلت الجدار الأبيض . لم يكن صوتها متوسطا أو جيدا ، ولا جاذبيتها أو إطلالتها وبشاشتها عادية ، كانت تمتلك الديامينت والرصاص والالماس . وكانت حنجرتها مترامية حسب فصول السنة من الغسق إلى الأرق ، ومن الظهيرة إلى بزوغ الفجر ، وما ان اصغي إليها ، أنا العالقة بها منذ بداياتها حتى اهبها جميع مكنونات نفسي وأبدو في أبهى أحوالي وعلى أهبة الاستعداد ان : أحب ودائما مثلها ، فتلك المغنية هي ، هي الأغنية ، هي الخلاسية والسمراء والشكولاته بالحليب والسوداء والصفراء ولون القمح والخشب المحروق ، والطمى في حواف الأنهار .. و .. جميعهم ينبضون تحت ثيابها وجلدها المضيء وهي تتحرك فوق العتمة والضوء فتغمز بعينها للتصفيق المخيف الذي تستقبله في حفلات الثمانينيات والتسعينيات وتقول لنا : تعالوا.

4
يموتون مبكرا فالعالم لا يعرف مدخرات كهذه . هي لم تترك مكانها ، هي كانت تقصد مكانها ، راحت وعادت وبانتظام فالحلقة ضاقت عليها والموت لم يعد هو المجهول قط . الموت هو احدى المواهب الغريزية الغامضة لدى بعض البشر فتدفع بعضهم للانتصار بالموت . دائما الرواية واحدة وسأمة وتقول عن : فلان أو فلانة ، جرعة زائدة ، كما هي وجدت جثتها في حوض حمامها في فندق في بيفرلي هيلز، أو ما يشبه رصاصة طائشة . آه ، هو السراب الاقتصادي والانتاجي ، الغنائي والفني والإعلامي ، هو أيضا انعدام مناصب الشغل ، وهو تشكل العصابات الصغيرة في البداية فتبدو ولوحدها انها التجربة العاطفية أو الاجتماعية الأولى التي يخوضها الفرد في الولايات المتحدة ، هي القدرة على عدم الايمان بأي شيء اطلاقا ولا بانفسهم . وهكذا نرى في أفلام كثيرة يقتتل السود مع انفسهم بينما يتفرج البيض المرتاحين مثل شريط ال كولورز الفذ . وهو في الأخير الاستمرار في ارتكاب الاخطاء والانفراد بالفشل الذي لا يعني اللا نجاح ، لكنه يعني ان لا نعرف بالضبط أي طريق سنسلك ؟

5
صيرورات سريعة الانكسار والضعف تخترق حساسيتها الهشة بجناح فراشة ، بغيمة من الندى لكنها تعيش تهديدا ممضا فتاكا فيما إذا انحسر الضوء والمجد ، الغرام ونفوذ السلطة ، التصفيق والتعاطف والشغف . هو قتال لحظوي ما بين الفرد وذاته ، وبين ذاك الفظيع المهلك الإعلام ، الاعجاب الفتان والنجاح المدوي ، هو هذه الشبكة الجهنمية من الاشتغال على كل ما يخطر على البال من المكائد والضرب تحت الأحزمة ، من الغدر والسفالة ، من الخيانة والقتل إذا ما دخلها أحد من أولئك أو هؤلاء فلن يقدر على المغادرة إلا الندرة الخارقة من البشر . قبل أيام شاهدت نجمة البوب الاشهر مادونا في لقطات خاطفة من آخر حفلاتها. كانت رشيقة ، يافعة وهي في ال 53 تمتلك مرونة عضلية في وثبات الفهد وبحركات رياضية خارقة . مادونا صنعت تعددها ، التقطت سطوة الصحة فصارت عدة أجناس ما بين التكالب على الضوء واصابة الهدف وقوة العزيمة . لم تلتفت طويلا إلى الوراء . بدت لي في ثوان انها كائن ابليسي ينفذ جميع النوتات ومصنوع من الزئبق الذي لا يستقر في مكان . حسنا ، أنا احترم هذا النوع من العزيمة الفولاذية التي تبدو في لحظة من اللحظات غير إنسانية ، لكنني أحب نشيج وعرق والتماع عيني ويتني هيوستن ، وقصر حياتها ذات الفولتية الصاعقة.

الخميس 22 ربيع الآخر 1433 هـ – 15 مارس 2012م – العدد15970
https://www.alriyadh.com/718461