عالية ممدوح
1
حين اخبرني أبني حيثيات هذه الحكاية، سألته وانا اختنق: ان كان يسمح لي بكتابتها ونقلها عنه ؟ خيم علينا الصمت فواصلت لكي لا احرجه: شخصيا أنا أرى الحكاية سيناريو فيلم جاهز فلماذا لا تقوم بكتابته أنت بعد دراستك المكثفة لهذا الفن الصعب على يد الأشهر روبرت ماكاي في نيويوك في العام المنقضي ، ها ما رايك ؟ اجاب ، سافعل . عال ، دونه أنت بالانكليزية وأنا بالعربية ، اجبته . تضاحكنا ونحن نغلق الهاتف ما بين كندا وباريس . حاولت ولمرات عدة كتابة ما اخبرني إياه وكل مرة كان الأمر يبدو كاركاتوريا وبه جانب سياحي / فلوكلوري فأتركه جانبا. الحكاية التي رواها عبداللطيف راقية وبسيطة وبدا لي الموضوع نوعا من المباراة فيما بيننا في استحقاقات الأعجاب والثناء. القصة لا يجوز معها الاختصار لكني سوف احاول ، وسأدع للابن لسان الراوي بدلا عني، واطلقه للتو أمام القارىء وهو يقول : في عيد ميلاد زوجتي ال.. قررت الأحتفاء به بطريقة مغايرة تماما. كنت ابدو كعسكري يتقدم إلى الهدف وما عليه إلا الوصول في الموعد المحدد؛ اليوم الفلاني من شهر مايو. وضعت خطة تصورتها جد طازجة وعزمت على تنفيذها بعيدا عن ولديّ ، وأنا احاول وبعد نوم الجميع وعودتي من عملي النزول إلى الطابق الأرضي، والذي نطلق عليه جميعا، نحن ألأهل ؛ طابق الصيد، صيد الأفكار الجديدة . حسنا، من هنا سأبدأ ولن أعمل بمفردي . فتحت الحاسوب واندفعت أشتغل باقصى سرعة. كان الحب يعتصرني من الاطراف فكتبت لحشد من الأصدقاء وفي جميع القارات، ومن اجيال مختلفة ، قائلا لهم بمفردات علانية فصيحة ودقيقة: اريد ان تذكروا صفة أو خصلة لطيفة واحدة لفلانة بنت فلان، سيما، زوجتي.
2
آه ، صحيح هي مروحة شاسعة من اصدقاء الجيران الأوائل في المملكة المتحدة، إلى الوشائج العائلية في الهند، إلى شريط الصداقات الحقيقية ما بين الولايات المتحدة وكندا.. و.. كتبت لهم شارحا فكرتي وانا اتلعثم ، فالأفكار في الرأس اشد سطوعا ووضوحا مما نتفوه بها ، أو نحاول ترتيبها على الورق، لكنني كنت افهم أمرا واحدا، انني بصدد إعادة تقطير لحظات شغف أريد، ونريد إعلانها لها ولنا ثانية، ان نقوى على ترديدها ولا نكف عن ذلك . ارسلت هذه الفحوى للجميع وكان العدد يقارب ال 200 شخص ومن مختلف أنواع القرابة والصداقة والعمل. وكانت المآدبة قد تهيأت والمدعون على وشك الحضور، وفي غاية السرية. إن مشاعر البشر الرضية لا تحتاج في غالب الأحيان إلا لصوت خفيض يود القيام بالافصاح عنها بالطريقة التي نقطع فيها الرغيف الساخن لعدة أقسام، ونوزعه علينا ونحن على مائدة الافطار. ذهبت إلى اضخم مكتبة في المدينة. كانت هناك البومات وكراسات تصلح للتحول إلى نوع من المخطوطات، وكان هناك في رأسي واحدة أريد كاغدها سميكا وبألوان مختلفة ويتحمل التدوين بأحبار ملونة ومختلفة الأشكال، وتظهرعليه الحروف نافرة قليلا للخارج، وتسمح ببعض المسافات من أجل وضع الزهور وبعض الصور، والهدايا الصغيرة ، والتعليقات ، والرسائل الخ. كنت أبحث في جميع الرفوف على تلك التحفة وكانت طريفتي في البحث تكشف عن نواياي الغرامية التي تأججت مجددا، وهذا فال حسنْ .
3
عملي كمهندس الكتروني في البرمجيات نفعني كثيرا فكنت التذ كثيرا وأنا أريد القيام بتغيير بعض عاداتنا وطقوسنا في احتفالات أعياد ميلاد من نحب فنكتفي بكارت لطيف، او هاتف ساخن ، أو هدية كريمة الخ . اشتريت البوما ضخما وقمت بتصمميه بطريقة جد بسيطة وموحية ، وكلما تصلني رسائل تعلن عن صفة من صفات زوجتي التي لم ابرع في اكتشافها على سبيل المثال ، أُدهش وافرح كطفل ، فكنت اضعها مع اسم الصديق / الصديقة وحسب الحروف الابجدية في الصفحة كذا.. وبدأت الأمور تلهمني الكثير من المفاجأت. فالكتابات من هذا النوع ، كانت تنتصر للتنوع الثقافي والديني، التربوي والمعرفي، المهني والعرقي. البعض أرسل بطاقة إلى مركز عملي زيادة في السرية أو طرودا بها هدايا رمزية ، وكانت المخطوطة تضج ما بين طرافة ومرح الصبيان والفتيان من الجنسين، وبين حكمة الناضجين والكهول فنستطيع ونحن نقوم بفتح المخطوطة أمام الجميع في اليوم المحدد ، ان نردد؛ ان ما يقوم به المرء ، الزوج ، الأب ، والعاشق . ومنذ بدء تاريخ التدوين وإلى يومنا هذا ، لم نتوصل لتعريف هذا الذي يجعلنا نقطع الأنفاس ، وبالتالي ، وفي ذات الوقت نستعيدها ثانية في حضرته / حضرتها. اشتغل ليلا والمشاعر توخز الأحشاء وتدع ضلوعي في حالة تنمل . إنني مسرور وأنا أخط بيدي كلمة : حبيبتي. فكرت، منذ امد طويل لم أقلها بهذه الدرجة من الوثوقية ،اليقينية والحماوة أيضا. بدأت استعيد الأسم ، اسمها ، الرجاء ، الحنو وآلفة الأسرة .
4
أنظر إلى المخطوطة / الالبوم ذات القماش المخملي واللون الزيتوني الفاتح ، بدت لي خلاصة تاريخ من المصاعب والمنغصات ، من التحولات والمتطلبات ، وكانت أيضا تعويضا وبسالة ، طموحا ومشاركة لما صادفنا في الاغتراب والنفي عن بلداننا وأهلنا ، نوعا من الذخيرة قُدم لنا في هذه البلدان الكثير من التفهم الأنساني والأحترام لنا كبشر من هنا وهناك. وضعت الآوراد اليابسة ذات الاريج الطيب ، الذي تهواه زوجتي، ووزعته بين الصفحات ، رتبت الشرائط المذهبة والفضية ، وجعلت شكل المخطوطة ، ما ان يفتح بيد الآخر وكأننا أمام مسرح صغير، وثمة من سيزيح الستارة ويوجه الكلمة إلى المدعوين، وهؤلاء الأصدقاء قد حضروا كلّ بطريقته؛ حضوره الفيزيائي أو هديته فانخرط الجميع في المفاجأة بصورة من الصور. والحبيبة كانت بحق آخر من يعلم . وسط ضجيج الموسيقى واصوات الأبناء وأبناء الجيران والأصحاب رجوت الجميع الصمت والهدوء. ابني الأكبر توقف عن العزف على البيانو البارع فيه، والصغير توقف عن التقاط الصور الفوتوغرافية. لم يقم اي أحد بدور الملقن. ناديت على السيدة الأولى في حياتي وبيدي المخطوطة، مركز الثقل في هذه الليلة ؛ قلت لها : ربما هذا دفتر مدرسي وانا عدت للصف غير المنتهي من علوم الدنيا والوجود . اليوم بالذات أريد ان اقول لك، انني خصصت لك تلك السنين من حياتي وها أنا وضعت الباقي هنا ايضا، هيا أفتحي هذا الكتاب فهو ليس من تحضيري وحدي …و ..
+++++
غرتُ، تماما. كنت أتوفر على نوع من الغيرة بلا أية وصفات جاهزة. أغار غيرة فورية، عارية آتية من هذه السيدة ، زوجة ابني وهذا الرجل ، أبني الوحيد وهما لم يرتكبا ألاخطاء في حقي ، بل على العكس. لدقائق تصورت ، تمنيت ، شغفت ان اكون أنا المقصودة بكل هذا الذي جرى ويجري أمامي كسيناريو في شريط مزدوج ما بين تبديل المواقع ، أنا الولدة التي تتلعثم في تبيان الرابطة ما بين الأم والوليد ، وهي تلك السيدة ، الحبيبة ، والأم ، والزوجة بالطبع . وانا في مكان آخر ، وفي أنفراد آخر . كانت أنانية الأمومة ، والأم أنانية ، لكن لا أحد يعترف بذلك ، تبدو لي ذات فولتية تكهرب كل من يتقرب منها ، وهي تشتغل من مكان سري وعلاني أيضا، ولها مرجعيات بدءا من أصول الأديان وصولا إلى هشاشة ووهن ما تعيشه الأم وهي في مرحلة الأفول. أبني غير اسمه حين صار كنديا فصار الأسم الأول آدم . ابتسمت بيني وبين حالي وانا أردد لنفسي، لم لا ، انها حواء ، بلى ، هي الحواء الأولى ، وها أنا أتدبر أمري وادعهما يتشاغلان عني قبل ان تظهر أمامهما اعراض غيرة الشيطان في جنتهما.. غيرتي ..
الخميس 10 شوال 1432 هـ – 8 سبتمبر 2011م – العدد 15781
https://www.alriyadh.com/665501