عالية ممدوح
كان هناك هوس حقيقي بسارتر من كل جيلي وما بعده أيضا، وكانت أفضال دار الآداب في تقديم أعماله، رواياته، مسرحياته، ومختارات لأهم مقالاته التي دونت وشهدت على تاريخية شديدة الأهمية، أو تتأتى أهميتها من اسمه بالدرجة الأولى وبالتالي ممن تناولهم في بحوثه ودراساته للكتاب والفلاسفة والنحاتين والشعراء الخ . إذا نصب فخا لكاتب ما فلا يمر وقت طويل حتى يقع فيه بمقاومة أو بدونها . إذا أحب ذهب في حبه أن يلقب جان جينيه، خريج سجون الاصلاحيات واللص الأبدي بالقديس فيثير حفيظة الكاتب الفرنسي البورجوازي الذي طفحت غيرته وتحاسده من جينيه وزاد غيضه من سارتر بعدما سفه وزعزع مجده الأدبي الذي سجله في روايته (نهاية الليل) فقد كتب عنها ما يلي : «إنها ليست رواية ولا تعدو أن تكون في أفضل الأحوال مجموعة من الرموز والنيات . إن السيد مورياك ليس بروائي» كان عاصفا وقاسيا، لا يساوم فيما يخص الابداع . فقد وقف مذهولاً أمام ما يسميه – غرابة التكنيك – في رواية الصخب والعنف للأمريكي وليام فوكنر . يكتب سارتر النقد الأدبي والفني كأرقى ما يكون النقد متسلحا بثقافته والمعيته، وبنظريته الوجودية، ومقابل ذلك كان الكشّاف العبقري للقوانين الطليعية التي يفرضها عليه العمل الأدبي/أو التشكيلي الخ . فالابداع يلخص قانونه ولوحده من خلال ما ينطوي عليه ذلك القانون أو التكنيك الحقيقي للرواية . كانت فلسفته في الوجود والحرية والاختيار يقيس بها افعال أبطال هذه الرواية أو تلك كما في الصخب والعنف حين كتب قائلا : «ترى لماذا حطم فوكنر زمن قصته وشوش تسلسل أحداثها ؟ لماذا» أجاب في صفحات لاحقة : «أن الانسان هي مجموع تعاساته الخاصة . وقد نظن ان التعاسة يمكن ذات يوم أن ينتهي بها الأمر إلى السأم والكلل، لكنه الزمن الذي يصبح آنذاك تعاستك الخاصة لأن مصيبة الانسان أنه زمني» بعد ترجمة الغريب لالبير كامو، بدا هذا الكاتب يثير افتتانا قل نظيره بيننا، نحن ذلك الجيل الذي كان يشعر وكل بطريقته بالاغتراب إلى أن يثبت العكس . جيل يريد انصافا، بدءا بالكتابة وانتهاء بالنضال السياسي . صنفت رواية الغريب وقتذاك، أنها حملت بذرة البراءة، الهجر والعبث الذي يلاقيه الفرد أمام ذلك الصمت المخيف لبلوغ الموت وعبثية معنى الوجود . أتذكر اليوم، وكنا في بيروت في اوائل السبعينات وكان أحد كتاب المسرح العربي قد صرح بصوت أقرب إلى الصراخ وكنا في ندوة ثقافية : «أننا جيل نحترم ونوقر جان بول سارتر لكننا نحب ونشغف بالكاتب كامو، حتى كتب أدوار سعيد تأويلا صادما لرواية الغريب بالذات . كان سارتر صوتا مهر عصرا بأكمله، ولأن ثقافته اشكالية بامتياز فقد تضامن مع الثورة الجزائرية تضامنا دون رجعة وأدان استعمار بلده وطارد في مقالاته النارية وبالتظاهرات والعصيانات التي كان يقودها ضد جميع رموز العسكر واليمين واجهزة الدولة، لكنه لم يفعل ذلك مع القضية الفلسطينية، بعضهم يوعز الأمر إلى ابتزاز المحيطين به، من السكرتيرة اليهودية إلى رئيس تحرير مجلته الشهيرة – الأزمنة الحديثة – اليهودي فرنسيس جانسون، والبعض الآخر فسر ضعف ما كنا نقدمه من معلومات وحقائق لم تستثمر كما يجب أو توضع كما يليق بقضية ساخنة ولا زالت توخز الضميرالجمعي والفردي كما كان يفترض، كضمير سارتر . لعل أشرس حواراته تمت في مرحلة متقدمة من شيخوخته وكانت مع المفكر الفرنسي ميشيل فوكو الذي كان في الثامنة والثلاثين فشكل قطيعة معرفية وفلسفية مع جميع طروحاته، يوم أعلن : أن الوجودية وفكر سارتر آخذان في التحول إلى اشياء متحفية . في الحوار – المعركة، أعلن فوكو نهاية عصر الوجودية وانطلاق عصر البنيوية . سجل فوكو في الحوار الشهير الذي نشرته كاملا مجلة بيت الحكمة المغربية في سنتها الأولى من العام 1986 حين فتح نارا هادئة على إرث سارتر: «لقد خبرنا جيل سارتر كجيل شجاع وكريم بالتأكيد . جيل شغوف بالحياة والسياسة والوجود، الا أننا اكتشفنا لأنفسنا شيئا آخر، شغفا آخر، هو الشغف بالتصور، ربما سأسميه» النسق . بالنسبة لسارتر يمكن القول، لقد وجد نفسه في مواجهة عالم تاريخي أراد التقليد البورجوازي الذي لم يعد يجد فيه نفسه، باعتباره عبثا » اما سارتر فقد أجاب على من سأله عن فوكو باعتبار رأيه الأكثر تماسكا بين جيله من الفلاسفة الجدد، وإذن ما رأيك فيه؟ أجاب : إن الحفاوة التي قوبل بها كتابه (الكلمات والأشياء) تدل بما فيه الكفاية على أن الناس كانوا بانتظاره، والحال، أن الفكر الأصيل حقا لا يجد قط أحدا في انتظاره سارتر في مئويته لهذا العام، في ملصقات ضخمة في جميع قطارات الانفاق وعلى اغلفة المجلات، بصوره التي يبدو فيها أربعيني، حول عينيه زاده وسامة، واناقته رصينة وهو لا يدخن السيجارة التي لازمته طوال سني عمره ولا يمسك الغليون الذي يظهره مغويا أكثر، وكأن وزارة الصحة الفرنسية جعلت من هذه الملصقات وبشخص سارتر الشهير أفضل اعلان ضد التدخين وما يسببه من مضار للبشر أكثر واخطر مما كان يندد به سارتر ضد الفاشية والنازية والاستعمار بكل الوانه حين كتب أشهر دراساته عن نظرية شعر السود لكل من سيزير وسنغور وكانت اختياراته لا تصدق من الحميمية والاجلال، وهو يضع يده على أحد تلك الأبيات الحارقة : بلا تعقيد، بالامس حين دنت ساعة استئصالي من جذوري، اغتصبوا المكان الذي كان مكاني.
الخميس 26 ربيع الأول 1426هـ – 5 مايو 2005م – العدد 13464
https://www.alriyadh.com/62025