عالية ممدوح
يبدو لي أن الانترنيت اُخترع للعراقيين في الأساس، عطية لا تقدر بثمن وتمجيد للعبقرية الإنسانية لطراز حياة تفيض على أجمل الفتيان العراقيين، أما نحن، المسنين فلم نهتم إلا أخيرا بما أنفقنا من سنين بين شكلي الرفض الفج أو الانضواء فيه إلى حد الإسراف. العراقيون في مواقعهم مرضى بالهيام بالحرية من بدايتها إلى نهايتها مثل شعوب الأرض. السويد، هي الأعلى تصفحا وانهماكا بين المنظومة البشرية – يقولون – لا نهاية للحرية فيسلم لأحدهم موقعا، فيبدأ بالشطط وينتهي بالشتيمة وإصدار الأحكام. بعض المواقع يحاول أن لا يضلل أو يبتذل، فيقدم نصوصا حديثة وطليعية لأسماء لم نقرأ لهم – لهن من قبل. البعض الآخر يوثق ذخيرة مهمة وفاتنة ما بين الفنون التشكيلية والقصائد الخام، والنصوص المفتوحة إلى الأقصى، لكتابات هي مزيج من المفاجأة وقوة الوجود، والعناية بالأشياء البسيطة جدا، بتلك الأجزاء التي نشعر ونحن نقرأها، أننا عشناها من قبل، وأن هذا الجزء من أنفسنا هو ذلك اليومي المشترك مع الجميع كما في موقع دفاتر . كنت أبحث عن النصوص الأكثر حميمية بالرغم من المياه الزرقاء التي تهدد عيني بالمحي في أحد الأيام، لكني لا أبالي . أضع لوائح وأسجل عناوين ثم أفقد الأوراق فيما بعد . قرأت أن لبعض الشعراء الذين أحب مواقع فسلمت وقتي لهم لكني لم أعثر على ما يجعلني ألاحق هذا الشاعر أكثر مما لاحقته في كتبه ودواوينه . الموقع الألكتروني، تماما، هو الأكثر حداثة، لكن بعض المواقع تذكرني بالملابس المستعملة . معظم اصحاب المواقع نرجسيتهم طفحت على الجوانب، لا تخفيها الألوان ولا الموسيقى ولا التصميم السريالي أو ادعاء التواضع. الموقع في الأصل حيز افتراضي له شروط الضيافة وعليه واجبات الاستقبال . الأحياز ألطف من المواقع، الحيز به انحياز وتعارض وهو يرتبط بالمبادرة وبالتجريب ويلهم حتى بدون استئذان وأنت تتطفل على أهواء ذلك الفنان أو تلك الشاعرة . ثلاثون عاما وربما أكثر لم نلتق أنا والتشكيلي العراقي يحيى الشيخ . أسمع انه في موسكو أو دمشق أو مسقط . أعرف أنه شيوعي سابق، لكن الشيوعيين يفضلون، شيطانا حاليا على قديس سابق . أقرأ ؛ كانت له تمارين روحية وفنية بين الصحراء الليبية الحقيقية وصحارى جليد اوسلو حيث يعيش منذ سنوات في منفى حقيقي وما بينهما كانت الأشواق وكيلة أعماله يعطيها أسماء ومصطلحات وينتج ما بين خط ذاكرة العشب، إحدى المراحل الفنية التي قطعها ضمن مداعبات طويلة للباد والصوف والملاحف وهو يكويها ويهندمها بين يديه الذهبيتين . استضافته مؤسسة المنصورية السعودية فترة ثلاثة شهور في شقة انيقة تقع في مدينة الفنون بباريس في الحي الخاص بالفنانين . هذه المؤسسة استضافت عددا كبيرا من الفنانين العراقيين في السنين الأخيرة فأطلقت عليها، كاعتراف بالجمال ؛ أنها تخصصت بالعراقيين . حين سلمني الفنان الشيخ ال السي دي، استضافني في حيزه الخاص . شعرت أن بمقدور البعض، الشيخ واحد منهم، أن يصنعوا لنا اجنحة للطيران ما بين الفالس الروسي ورقصة الهجع العراقية . قال لي، إنه كتب مجمل تأملاته الروحية وهواجسه الجوانية عن غربة المكان، فكان يعطي للمحبوب – العراق – ايقاعات اللحظة الهاربة من المصطلح الانتروبولجي أو الفذلكة السياسية التي عفا عليها الزمن . بدا لي للحظة، أن الشيخ يكوي الأشواق أمامي ويدعها مرتبة ومهندمة فتفوح بعبق تجريبه الجريء عبر اللباد والأصواف فيقوم بتدليك جميع رموز الأنوثة والجميع يتلصص على تلك الأيروسية الراقية فأشعر بقوتي كعراقية، أشعر بتفوق النزوات والزلات، بثمار اللذائذ الأكثر من سبع وبتنوع الذنوب التي لا تحصى لكن المغفورة لها من الفن والفنانين العراقيين، بولائم الحب المستمر ما بين الثقافات والأعراق والأديان والملل، فالفنان الشيخ من الطائفة المندائية وطاقة الماء لدى أولى ديانات العالم هي صيحة التطهير وشراهة اللذة، ولأن لوحاته لا تحصى فإن مرحلة كشوفاته الصوفية الأخيرة التي عرضها لأيام في قاعة ملحقة بمدينة الفنون بباريس قد أثارت جدلا ونقاشا وأسئلة لا حصر لها . لقد حاول فيما كتبه من نصوص في حيزه الافتراضي كما لو كان يتلمس الطريق، طريق اكتشاف نوايا الشراكة ما بين المقدس والدنيوي في حضارة الرافدين من حشود النساء والرجال، والحيوانات والأدوات التي تباغتك بالحيوية وهي تتحول إلى مخلوقات ذات جاذبية كبيرة . ورطني الصديق الشيخ باكتشاف أحياز جديدة خلاقة وها أنا أعدد التي بحوزتي أو صارت هكذا من الأصحاب، من الغرباء الذين لا أعرف والذين تحولوا إلى أصدقاء وصديقات وأنا أتذوق فاكهة ضيافتهم الجميلة . ترى، لماذا لا يكتب البعض حيواتهم على شكل نصوص أو كتب او كما قرأنا أخيرا عن تشكيل اتحادات للادباء؟ . لماذا لا يكتب الشيوعي اللاحق والسابق، والمتعاون، لماذا لا يكتب البعثي العادي الذي لم يتلوث لا بالدم ولا بالفساد خبرة السنين المرعبة. يكتب لهذه المواقع اهوال الثلاثين عاما في المهاجر والمنافي وفي الداخل الدموي طالما صارت دور النشر العربية لا تطاق في الأجور والمطاليب التي لا تنتهي من الكتاب والكاتبات.
الخميس 4 ربيع الآخر 1426هـ – 12 مايو 2005م – العدد 13471
https://www.alriyadh.com/63694