الشاعرة صفاء فتحي: كتاب التحضير للموت

عالية ممدوح

1
تكتب الشاعرة والسينمائية والأكاديمية المصرية صفاء فتحي كتابها الجديد “اسم يسعى في زجاجة من داخل فرن جحيمي نراه يشتعل أمامنا وهي تدون ما يقارب ال 176 صفحة، عملا، نصا أو كتابة غلافها أحمر متوهج وصادر عن دار النهضة البيروتية هذا العام. هذه الدار اليوم هي الأشد رحابة ويفاعة وقوة في الترحاب بفلول الشاعرات والشعراء الفارين من دور النشر العربية التي – وكما يبدو – ترفض أحيانا بذوق وأغلب الأحيان بفظاظة منهجية لكي تقطع دابر أي رجاء بالنشر. حضرت قبل بضعة أعوام دار النهضة وقلبت الطاولات كنقطة انطلاق لاصطفاء حشود من الكتابات التي تستحق الدفاع عنها الدار هذه، ونحن كقراء ومعنيين بالشعر. صفاء تكتب وهي في حالة احتضار، لذلك هذا النوع من الكتابة لا يدخل المنافسة مع أحد، ولا مع نفسه حتى، ولا يخضع لقواعد، لكنه ينال الاستحقاقات كلها بفرادة تكاد تكون تامة. هي لا تريد تعريف الشعر لكنها تحاول، وكلما حاولت، كلما ينتفي الأمر عن نفسه، وعنا، وما ان تفكر بالخروج بنقطة تؤكد انها تستطيع التعريف، تصير الكتابة مهددة بالوصول إلى مديات شديدة البهاء: “هو اللفتة والالتفات والتلميح والإشارة العابرة. هو العزاء الوحيد من تربص الموت وهو التناهي الذي يترصد جميع اللحظات. الشعر رئة الأنا المنزوية في النص. هو السر الذي أنوء بحمله وحدي”.

2
يخطفها التصوف فنشاهد صدوع الروح عبر شهقات الحلاج في الطواسين ووصايا النفري، الأول يوصل المعنى الذي يهديها إلى سواء السبيل في مشروعها الكتابي هذا. اختارت الشاعرة ان تحيا بين حالتي الانكار والاستسلام في الوقت ذاته. حب والتياع لا تصطفيه العبارات، لكن تحاول ذلك، فيبدو الانخطاف شديد القسوة والثراء، فتموت، هي تموت أمامنا، ونحن نرى دنو الموت منا، هي لا تشكو منه، هي توافق على الموت معه، مع المحبوب، فنشاهد ونلمس ونقرأ عن الثالوث القاتل في اركانه: الشعر، الحب، والموت. تعيد صفاء فتحي ادماج الروحانية ذات النفحة الشرقية بالعدمية الأوربية فتبدأ بإفشاء أسرار الكتابة، كتابة السر الذي لا ينازعها عليه أي أحد فهو لها، ولوحدها طالما هو ميت. نحصل على الاجابة الختامية حين تبدأ بالقبو، هو كما نقول بالعراقي السرداب المخيف، الرطب، المعتم الذي يضعنا في المأزق وينبغي علينا حينئذ، هل نواصل أم ننسحب. صفاء تدوس أرض القبو: “فهو المكان الذي يحوي المحرمات جميعها والمتع كلها، هو مكان التناقض بين الظاهر والباطن، وتتنازعه قوى الحياة والموت في آن واحد، فيقاوم التأويل”.

3
منذ زمن طويل لم أقرأ في الكتابات الأنثوية الحديثة هذا الهلاك الممض بالضنى والغرام الذي لا يقول أحبك ربما، إلا مرة واحدة، لكن المفردة، جميع المفردات كانت تمتلك أفراطا واسرافا في هذا المجال لكي يصل إلى ما وراء الحد، ولذلك الحب في هذا العمل هو التكريس التام للموت، بلا مقاومة، لم أقوَ على استحضار سطور بعينها فهو نسيج ينتقل بطواعية ما بين مفهومي الغيبوبة الصوفية التي لا تتغير، والصحو التام فيتوهج برقا: كل شيء يتحقق إذا كنت موجودا أو غائبا. هي لا تستعين بجاك دريدا المهيمن على كل حرف وفارزة وبياض ومحو، الفيلسوف والمفكر، الكائن الغريب، التارك والمتروك، المريض والممرور من كل شيء، فلا يظهر هذا الكائن مجازا، ولا يضمر استعارة، هو البدء والبعد، المرئي والمختفي ولذلك هي اشتغلت على كتابة دريدا بالكتابة من داخل صدودها وحدودها، وما ان يتهيأ لنا أو لها ان كل شيء انتهى فتعود وتبدأ من جديد. وحين نتحدث عن “حداد القصيدة” فهي تعني الحداد التام أمام إشكالية الموت الحق، أو استدعاء الحرمان بفضل الموت، لذلك الحب لا يترجم والموت أيضا، وهذا النوع من الكتابة كما تقول هي: “لا تقبل الترجمة” وهذا أمر دقيق حقا. الكتاب/ الديوان/ المشروع مقسم إلى ذاته، كلمتان في البدء، ثم المقاطع المقطعة الأوصال.

4
“سأذكر الصبار الذي شق الطريق بعمود الزهرة السحرية
عبر الكبرياء في سواد الليل (إشراق)
بعدها جاء الدوران، الالتفاف، مناوشة اليد واليدين، القدم والقدمين
وملاحقتي للنفس، للريق، لفضلات الطعام، وآخر قطرات اللبن لأخرى كانت أنا”
يعقل ان اسمع أصوات عظامها وهي تتكسر أمامي، تناوش احتضارها فأحتضر معها، وهذا أمر نادر في النصوص العربية. حين اسمع واشاهد قيامة القلب والهيام الحارق الذي تستبدله بالاسيد، تشتعل وتعود، تنتحر وتبتلي، تتشظى وتتفتت لكنها: “فصرت في الأرض وعلى التراب أقيم، وفي ظلك دائما سأكون لأنني لك أكون، ولا لن أكون ابنتك ولن أكون حفيدتك، ولا لن أكون امرأتك ولن أكون محبوبتك ولا لن أكون لك الحبوب الطائرة وستكون لي قلب الشياء”. من بطن الحوت تكتب صفاء فتحي وتنادى يونس النبي وهو في اليم، تصيح على يوسف في وحدة جماله القاتل، فتقتل نفسها من الوجد، وتدخل بطن الرجل وتعود من حوت الكائن الفيلسوف دريدا وهي تحتضر معه: “وأنا اسبق نفسي إلى نهايتي وأقول:
إنني الآن فيما بعد حياتي
أنحني
وأحن إلى بنت أخرى
كانت قد تكون أنا”
حين قابلت صفاء فتحي قبل اسابيع في حفل غذاء مع جمع من الصديقات، شاهدتها عائدة من جنهم، بدت لي مخلوقة نهائية، مكرسة لما بعد الموت، فهذا كتاب لم تكتبه كاتبة إلا واستيقظت في قلب الموت ثانية، غير هيابة، باسلة، تعرف الهاوية تماما: “حين يكون كل شيء هو الشيء الوحيد “و” اعرف أنني أبداً لن القاك. لأن الشاي مازال يصل إلى منتصف الكوب، أسبق قدميك بخطوة، في الخفاء اختفيت عنك وعني” أظن ان صفاء كانت في ذروة جمالها حين دونت هذه النصوص، عروس مبتلاة: “واقتفي أثرك وأتركك فقط كي أعود”.
من الجائز هي تعود، لكني أنا.. اشك في..

الخميس 26 رجب 1431 هـ – 8 يوليو 2010م – العدد 15354
https://www.alriyadh.com/541777