الانتحاب بصمت

عالية ممدوح

1-
في أسبوع واحد تلقيت كل دروس الفقد وما كان علي إلاحفظ التعاليم وإجراء اللازم؛ الانتحاب بصمت ولوحدي. أراها الآن صديقتي وناشرتي مي غصوب، وأراه الآن الصديق جوزيف سماحة. علي أن أفسح لهما الطريق لكي يمران بهدوء، نغلق أجفانهما بذات الهدوء ولا ننتزع منهما آخر الصور التي اعتصرهما قطرة وراء قطرة، ندعهما في مجرى الدم ونشرع في تدوين شيء آخر. علي أن أكتب عن أمر يلائم ويوافق مي وجوزيف وبطريقة استثنائية: الحرية. كيف يكون بمقدور رجل ومثقف وكاتب ان يكون قبيلة من الأحرار ويبتهج بجلاء حيث لا يدع الحرية بمفردها. حرية مي غصوب كانت تسبب العدوى، وكانت تقدر أن تؤلف فيها جميع النوتات الموسيقية والحركات المسرحية وتتحمل غلاظة وفجاجة اللاأحرار من حولها. أظن، على الأقل من جانبي وأنا أستطيع قول ذلك عنها، إن بمقدورها نسيان جميع أنشطتها الثقافية وبدون استثناء إلا أن تكون حرة وبصورة كاملة. تابعت ما كتب عنها وبالتالي عن جوزيف، تماما، هناك غصات تتوالى وبمقدوري القول، حسنا، ماذا سنفعل بباقي الأيام دونهما ؟ شئ مخيف، صعب الاحتمال وبلا معنى، وأنني سوف أظل ولا أزال هكذا بدونهما…

2-
جوزيف سماحة، شخص آخر. في ميتته بدا لي ذلك جلياً. لا يمكن تفادي الدموع، نعم، دموع خصوصية موصى عليها، دموع حرة هي أيضا. لدى فرجينيا وولف فقرة جميلة في هذا الشأن تقول: “الآن سأدفن حزني في طيات منديلي الذي سأعتصره حتى يصبح على صورة كرة”. بهذه الكيفية علي أن أكف عن النشيج لكي أسهّل المحادثة مع النفس. غادر سماحة، الصديق المتمهل جدا، الصديق الأكثر بطئا إلى لندن لكي يواسي صديقه وصديقنا، صديق – ذلك العمر البركاني – الأول، الكاتب حازم صاغية بزوجته ورفيقة أيامنا مي غصوب. في اليوم التالي أكتشف الميتة صاحب البيت وباقي الاصدقاء الذين حضروا من باريس إلى لندن للمواساة كما تقتضي تقاليد الصداقات ذات الرفعة. ألا ترون، أننا نتوفر على شيء متعذر استيعابه. هذه ميتات تتوفر على عبثية قاتلة تخترق حياتنا بصورة فائقة حتى لتبدو الميتتان وكأنهما تسجلان صيرورتهما لا نهايتهما فلا نستطيع التخلص من وطأتهما ولوقت طويل جدا،

3-
جوزيف سماحة وحازم صاغية صديقان، لا يجوز أو لا يمكن ان نسجل ذلك وكفى. علينا أن نوضح قليلا: هما مفكران، صاحبا أفكار كتبا فيها ودافعا عنها. ناضلا سوياً في منظمة راديكالية واحدة. ألفا كتبا، كتبا مقالات وتعليقات، نصوصا وتحليلات، لكنهما، وأيضا افترقا. كانت بينهما تعددية يتفاوضان عليها ويشتغلان ضمنها. لبنان، وبيروت بالذات تقدر وإلى حد ما أن تقدم جنسين من هذه الأجناس التي يتسع كبدهما، وقلب المدينة على الاختلاف والتعدد، ربما، الاثنان، بمقدورهما أن يصيبا الهدف. دائما هناك فارق بين الكتاب، جميع الكتاب،وليس دائما يبقيان في خانة الأصدقاء ولكل واحد منهما صيرورته الفكرية و السياسية. تحرك جوزيف من بيروت إلى لندن من أجل ألا يظل حازم وحيدا. كيف تشتغل تلك العلاقات الإنسانية ما بين بعض البشر الجميل كهؤلاء ؟ كيف تسمح لي هذه العلاقة المغايرة والمختلفة والنفيسة بين فكرين مختلفين لكاتبين وصديقين ، ولكن، بالضبط لتخصيب صداقة أقدر القول عنها وبدون مبالغة ثمينة.

4
لست معنية هنا بما كتبت مي أو جوزيف فحسب، فأنا أحتفظ بجل مقالات سماحة في ارشيفي للعودة إليها كنصوص إبداعية لا تحيليلات سياسية، نقدر العودة إليه وبمقدورنا تحويلها إلى معارض ومراجع فيما بعد. إنني معنية ككاتبة عراقية بهذا الذي يدعى مشكل السياسة. إنني أدون هذا وأعنيه بالمعنى الحرفي للسياسة. ميتة سماحة في رأيي توثيق فريد بنوعه للطريقة التي علينا ان ننسق فيها مروحة شاسعة من الرحابة والرقي والتسامح والاختلاف، وإذا ما تعلق الأمر، بشاعر أو كاتب من هذا الفريق أو ذاك، أعني، منّا، نحن – العراقيين – ما بين كاتبة / كاتب، ما بين تلك التشكيلات لشبكة من أسماء عراقية هائلة لا تمتلك من أسلوب طرح الأسئلة إلا الاستجواب والتخوين، ولا تريد من الآخر إلا أن يكون داخل أسر أو سجن أو ميتاً. قضاة هم العراقيون فيما بينهم وعلى بعضهم وبذلك يقصي أحدنا الآخر فنصير جميعا في الخارج، خارج الشأن السياسي العام وخارج البلد وبهذا المعنى، الجميع يتحول إلى ضحية وجلاد. أظن، أن جوزيف لم يدع قط أحدا ينوب عنه في الكلام واتخاذ المواقف ولا حازم صاغية ولا مي غصوب. على هذا النحو، مي كانت تولي الآخر درجة راقية من الانتباه. كنت أشاهد درجة تربيتها الروحية التي توفرت عليها لكي تكون حرة بتلك الطريقة المعدية، بمعنى بديهي، ليس محايدا أو لأنها تريد إخبارنا أنها كيت وكذا. كانت تتطابق مع ما تؤمن به لكنها لم تقلل من الإصغاء للذي يعارضها بالانتصار عليه بالضجيج أو الإهمال، اللغو أو الإقصاء. سماحة، كان حياؤه الأخلاقي هو خط مواجهة لا فرار. بلى، لست معنية بما ألفا ونشرا فقد كانت عموم التعليقات عن هذا. إنني معنية كعراقية، كيف يمتلك المفكر النزيه قواعد سلطة فعلية لا تتحول إلى محكمة أو محاكمة لكنها تشرع ان تصير بيوتا ومدنا وعلاقات ونصوصا من الجمال والاختلاف والعدالة. أظن، هذا أمر لا يخص الفكر السياسي فحسب، وإنما هي بذرة ونسق وقيمة نستطيع ان نردد ونقول، اننا تعرفنا على بشر من هذا الطراز، حمل ونشر ضوع أجمل الصداقات الآسرة ما بين بعض البشر فتوصل إلى نوع قل نظيره في انتاج وإبداع الحياة ذاتها.

الخميس 18صَفر 1428هـ – 8مارس 2007م – العدد 14136
https://www.alriyadh.com/230742