حاورته – عالية ممدوح
Pّhilippe Spinau هذا هو اسم الرجل الفنان الذي يدير بيت الصحافيين الكائن في الحي الخامس عشر، والقريب من شقتي. دائم الابتسام، حنون ظريف وشديد التهذيب، يمد يد العون والتضامن مع المطرودين والمنفين واللاجئين الذين هربوا من أوطانهم ومن جميع الجنسيات بالعالم. صديقتي الروائية والصحافية لطفية الدليمي التي وضع اسمها في قوائم القتل ووزع اسمها مع مئات الاسماء من الشعراء والفنانين والعلماء والكتاب العراقيين على مواقع الانترنيت زيادة في الغل والقهر، فقط لأن هؤلاء الكتاب سجلوا ودونوا إداناتهم ضد الغزو والاحتلال وفضح ما يحصل في العراق من جرائم ومظالم وفظاعات. حين كتبت لي لطفية قائلة: إنها غادرت بغداد في طريقها للنفي الطويل. شعرت أن السم الأمريكي والطائفي أرغم الألوف من جميع الاختصاصات على السير في طريق التيه الذي لا يطاق فكتبت لها قائلة: وأنت تغادرين تلك البلاد أشعر أن وحشية الأمريكان قد فاقت كل احتمال وتصور فأنا أعرفك باسلة.. الخ أول ما وصلت باريس حاولنا مطاردة تلك التفاصيل الجميلة فيما بيننا، فنحن صديقات منذ ثلاثة عقود وبدلا من نشر الحوار الطويل الذي أجريته معها قبل اسابيع قامت بتعريفي على مسيو فيليب، هذا المدير الذي يبدو كالمقاومين الفرنسيين في مرحلة الأربعينيات ضد النازيين وها هو يتجاوب معي لإجراء هذا المقابلة الخاصة بجريدة الرياض. كنت أجهل وجود مثل هذا البيت أصلا، الخاص بالصحافيين. فالرجل يبدو منضبطا ومسؤولا عن رد الخطر عن الجميع لكي يفوز بالطمأنينة كل من نال القبول للضيافة ولو لفترة شهور ستة فقط، هي المدة المقررة هنا. المنزل بثلاثة طوابق المطبخ مشترك مع الجميع مزود بغسالة للملابس وثلاجات تنتهي بقفل معدني وافران، هنا لا يجوز الطبخ. عليك أن تدبر أمورك بالطعام البارد أو الجاهز فالحي حاشد بكل المطاعم والمحلات والسوبر ماركت كما في كل حي من احياء باريس. يزود المقبول هنا ببطاقة شهرية ومجانية للمترو والباص، وبشيكات تقدر بمبلغ مقطوع يستطيع عبرها المرء التسوق من محلات خاصة توافق على هذا النوع من الشيكات. كما أن هذا البيت يقدم ضمانة صحية للصحافي ولو للفترة القصيرة.. حين رغبت بالحوار ضحك بصوت لطيف وقال :
بكل سرور ولكني أنا شخصيا لست صحافيا.
@ وإذن، من أنت؟
سينمائي وأخرج أفلاما وثائقية .
@ ما الذي دفعك لتأسيس هذا المنزل الذي ذاع صيته بين الصحافيين العرب والاجانب بسبب مواقفه النبيلة وسبل الاستضافة الكريمة؟
كطفل مشاكس أجاب :
الضجر، هل تصدقين ذلك .
@ أجل ولم لا يفعل فعله لدى الضجرين من الاثرياء في العالم؟
لا ادري هذه مشكلتهم أما عني، فأنا أغير مهنتي كل عشر سنوات. اشتغلت بالعلاقات الدولية والإخراج السينمائي، كما عملت في الصحافة (طباعة ونشر) كما ا شتغلت بصناعة الديكور في المحلات الكبرى (عمل الواجهات) .
@ ولكن ليست هناك الا علاقة خفية بين جميع ما عملت وتأسيس هذا البيت. هل الضجر قادر على الإتيان بمثل هذا العمل النبيل؟
بلى، الضجر، تماما. أنا رجل أسأم من كل شيء ولذلك أشعر أن قيام علاقات مع بشر مختلف عنك في الثقافة واللغة والحضارة هو نعمة لا تقدر بثمن. فأنا مواطن أحب صحبة الناس. لا أملك عقلا رياضيا أو فيزيائيا فأشعر أن حاجتي للآخرين، ربما، بقدر، أو أكثر من حاجة الآخرين لي .
@ هذا بيت الصحافيين، هل هناك أية علاقة بينكم وبين “مراسلون بلا حدود”؟
لا علاقة لنا بها أبدا. نحن لدينا استقلالية مالية تامة. بالطبع تربطنا بهم سبل الزمالة فقط. حين يحضر الصحافي إلينا ولديه مشاكل ومصاعب نقوم بإرساله إلى / الاوفرا / OFPRA وهي هيئة حكومية معنية بشؤون اللاجئين الذين لا وطن لهم. هي التي تتولى قبولهم وإليها تقدم الطلبات لحين يتم دراستها حسب الأصول المرعية. نقوم نحن باستضافتهم هنا فترة شهور ستة لحين البت بملف الصحافي. علينا، بالطبع التأكد من رواياتهم وقصصهم فتلك الهيئة هي التي تقوم بتزكية هذه أو تلك من الصحافيات والصحافيين .
@ ومن يغطي تكاليف هذا المنزل والاستضافة؟
تأتي الأموال لنا من التلفزيون والإذاعة والإعلام ومن مصادر ومؤسسات إعلامية خاصة. نحن لا نتقاضى قرشا واحدا من الدولة .
@ ولكن هذه الاوفرا هيئة حكومية وقد ترفض أحد الطلبات أليس كذلك؟
هنا نحن أحرار وديمقراطيون فلا نرفض أحدا. جميع الصحافيين يطلبون لجوءا سياسيا وقد لا تقدر الدولة الفرنسية أن تمنحهم هذا أخيرا. هذه الهيئة تدرس كل حالة على حدة ثم يتم اتخاذ القرار بالموافقة أو الرفض. هناك لجنة تقوم باستئناف الطلب لحين صدور قرار جديد. لطالب اللجوء الحق بالاستئناف ولثلاث مرات لحين صدور القرار الأخير عبر مجلس الدولة وهو أعلى مؤسسة تشريعية فرنسية .
@ كم طلب لجوء تم رفضه؟
لم يتم رفض أي طلب هنا في هذا البيت. جميع الطلبات سياسية. لدينا صحافيون وكتاب ومصورون من العراق مع عائلاتهم ولكن لم يبت بأمرهم لحد الآن. بالطبع هم ونحن بالانتظار كما نقول – نحن قاعة للانتظار حتى يصل الرد من هيئة الاوفرا. هنا أنا مسؤول عن كل واحد ومن الضروري جدا ان يكون اللاجىء صحافيا .
@ متى تم تأسيس هذا المنزل؟
في الثالث من أيار / مايو القادم نحتفل بالعيد الخامس لافتتاح البيت .
@ كيف حضرت فكرة التأسيس؟
كما أخبرتك من أجل التغيير. صديقتي Danulle Hayon وافقت معي على الفكرة وباقي الأصدقاء والأصحاب سعدوا واعجبتهم المبادرة جدا ولذلك تقرر البدء بالمشروع. في بعض الأحيان كلمة واحدة تكفي من أجل البدء بمشروع ما، حياتي أو إنساني أو عاطفي. بداية، بقينا في عملنا الأول ونحن نقوم بالبحث عن سبل النجاح في مشروعنا وحين شعرنا بذلك تركنا عملنا الأصلي .
@ وكيف حصلتم على هذه البناية البديعة والمناسبة جدا؟
قام، وأشار علي لمشاهدة صورة كبيرة جدا للعمارة قبل والعمارة من بعد. الأولى مخيف منظرها بها حروق وتشوهات كثيرة. والثانية راقية نظيفة مؤثثة بصورة جد لطيفة ومتقشفة أيضا. في السرداب وضعت أجهزة للحاسوب لكي يتعلم فيها الصحافي ويرسل تقاريره ورسائله لمن يهمه الأمر كما هناك دورة مكثفة لتعلم اللغة الفرنسية أيضا .
واصلنا الحوار فأضاف قائلا :
المؤسسة الإعلامية والصحافية هي التي دفعت أجور الإصلاحات بالطبع .
@ ولماذا هذا الابتعاد عن مساعدات الدولة وهي كثيرة ومتنوعة؟
نحن لم نطلب أي شيء من الدولة فهي لا تمنحنا لأن لنا طابعا اجتماعيا ونحن نعرف ذلك مسبقا فلا نطلب .
@ وأنت، هل تتقاضى أجرا هنا أرفع مما كنت عليه في شغلك السابق؟
راتبي هنا أقل لكن ذلك هو قراري الشخصي وهوايتي ومزاجي .
@ كم صحافي استقبلتم لحد الآن؟
118من أربعين بلدا. 27امرأة والربع تقريبا يطلبون اللجوء السياسي .
@ أكثر الجنسيات حضورا عندكم؟
تركيا، الكاميرون وهايتي .
@ ما هي شروط الاستضافة؟
يجب ان يكون صحافيا ولديه مصاعب مع بلده. مضايقات، تهديد في حياته ورزقه وعائلته. لا يهمنا قط العرق، الدين واللغة المهم ان يكون مهددا فعليا. اما ما يتناوله في كتاباته من افكار فهذا لا يهمنا اذا كان من اليمين أو اليسار فالجميع يقول انه ضحية الدكتاتورية. ولذلك نحن نوافق على الجميع مهما كان لحين البت بالأمر من قبل تلك الهيئة .
@ ولكن دائما هناك نسبة من التكاذب والتلفيق وادعاء البطولة كما يحصل في جميع انحاء العالم ولدى جميع البشر فماذا تفعلون في هذا الخصوص؟
معتادون على استقبال الغشاشين والكذبة. لكن، لدينا قدرة على اكتشاف النفوس ولحد ما لم نغلط من خلال الحوار والمكاشفة لحين يتم التحقق من الحالة سلبا أو ايجابا .
@ هل تتابعون ما يجري من تهديد وقتل للصحافيين في العالم العربي وعلى الخصوص بالعراق بعد الاحتلال؟
بالطبع لدينا متابعة دائمة. هذا بيت الصحافيين وهو الوحيد في العالم. هو مؤسسة خاصة لا علاقة لها مثلا بأية نقابة أو حزب .
@ كم عدد العاملين معك؟
أنا وحدي فقط في الادارة. أحيانا يحضر بعض الصحافيين ونقدم لهم دورات تدريبة ويقدمون لنا بعض العون من حين لآخر .
@ ترى، ما ألطف وأسوأ الأشياء التي صادفتك من الزملاء الصحافيين؟
عمليا ونفسيا، حين أشاهد ابتسامة صادرة من أحدهم على الخصوص أنا اعلم أنه معذب وحيران أو مظلوم فأشعر بسعادة لا توصف. أتعس حالة صادفتني كانت لسيدة كوبية تركت زوجها مريضا بالسرطان هناك وأرغمت على العودة إلى كوبا من أجله وهو يحتضر في ساعاته الأخيرة. بقيت حائرة بين موتين الدكتاتورية والسرطان .
@ كيف ترى الصحافة في العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر؟
تماما، حدث تغيير فادح وكبير في الكتابات انعكس على البشر في العالم. الفرنسيون عانوا من جراء ذلك كثيرا. مع الأسف، لم يتصرف الصحافي الأمريكي كمهني وكما يجب وإنما كناطق رسمي باسم النظام الأمريكي. اما في فرنسا فقد وقف النظام منذ البداية ضد الحرب ولم ينعكس ذلك على الصحافيين مثل الولايات المتحدة. ففرنسا صديقة العرب والحكومة الفرنسية سواء اكانت من اليمين أو اليسار لديها علاقات ومصالح ذات خصوصية مع العرب .
الخميس 14جمادى الأولى 1428هـ – 31مايو 2007م – العدد 14220
https://www.alriyadh.com/253505