إيمان مرسال: عندما لا تتخلى عن البيوت


عالية ممدوح
1
طوال ال 86 صفحة من كتاب الشاعرة المصرية إيمان مرسال ” حتى أتخلى عن فكرة البيوت “” كنت اخاطب الشاعرة وأقول بصوت خفيض : لماذا تكتبين بكل هذا الاخلاص المميت والنادر للكتابة ؟ كأنك تدونين سرا ولا يجوز البوح به لأي أحد . هذا مؤكد . كتابك يضطهد الكتابات الواقفة بعيدا عنه باميال أو أعوام . هي صفحات وعناوين كلها وبدون استثناء تقول ضد عموم ما يٌكتب ، وتنتقم مما سوف يٌكتب ، أو هي غير الكل الكامل الذي ينشر . آه ، هي تفترق عنهم دونما هدف ، ولم يخطر ببالها أن يكون لها أي حالة إدهاش لنا إلا أن تلقي بنفسها وأمامنا وبدون أي تعويض إلا هذا : “” أمامي طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنني احببتهم،
بيوت للأرق داومت على تنظيفها باخلاص في أيام العطلات ، قصائد سٌرقت مني سطرا سطرا حتى أنني أشك في انتمائها لي .
رجال لم اقابلهم إلا في الوقت الخطأ ومصحات لا اتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك “” .
تنفصل الشاعرة عن ذاتها لكي تكتب بذاتها ، وتقدر هذه الذات . لا هتاف يتبخر من حنجرة إيمان ولا خلوة مع الذات إلا لكي تتبين الاخطاء بدقة . امرأة ، شاعرة ، شكاكة وتمتلك روابط بالعذاب ، كلا ، لا تطالب به كفعل ارادي ، أو لكي تدهش الآخرين . إيمان تريد أن تبلًغ عن فشل ما في مكان ما من القلب ، أو البلد ، أو العالم .

2
“” أنتَ عدت إلى مصر في الوقت المناسب .
أنتِ تركتِ مصر في الوقت المناسب.
شوارع القاهرة مازالت مأهولة، فقط افتح الشباك، أما أنا فأشك أن الجبال في أماكنها وأظن أن أقرب مكان بعيد عن التيه هو الموت “”
تذُوق وتأمل في ثمار هذا النوع من الكتابة التي اقيس فيها الوعي الحاد ، الخاص ، الشخصي القادر ان يلتقط الخطر والجذرية اللامحدودة التي لا ترضى على ثلاثة ارباع ما يجري معها وحولها في الوطن ، والبيت البعيد ، في الانخطاف الذي لا علاقة له قط بما يخيب في غالب الأحيان مما تكتبه المرأة والشاعرة العربية عن الغرام . إيمان مرسال تحضر لمشروع الشغف في اضطرام وحمى ، وفي الغالب لا تتوصل إلى انجازه ، ليس بسبب التعجل والعناد ، وإنما لأن الحب يعمل في كثير من الأحيان ضد المغرومين لسبب غامض ومجهول ، هي الأمور هكذا ، هي التي تعين لنفسها ساعة خرابها فما على إيمان إلا الانتقام بالكتابة هذه :
“” اضغطْ الجرس مرة أخرى
مقطوعة الأنفاس ينفدُ صبري وأتباطأ
كأنني أُخرج لساني للوقت الذي انتظرتك فيه
ربما تلك هي الثواني الأكثر بهاء مما بعدها
فُتح الباب لرجل تنتظره ينتظر في الخارج
كأن كل شيء على ما يرام في هذا العالم ، وبكسل
ستمتد يداي إلى المقبض “” .

3
في قريتها ميت عدلان تحقق بصيرتها وقوة إبصارها الجواني الدرجة التامة في الأفعال الكاملة والعريضة لكائنات حددت الشاعرة موضعهم في الوجود والفخر ،هؤلاء لم يحضروا على هيئة شجرة عائلية فقط ، لكنهم ، النثر اليومي الذي جدد مستقبل قصيدتها ومشروعها المعرفي والثقافي والوطني . في البيت الأول تحركت القصيدة الأولى ، في صبوة اليفاعة وهي تكشف البذل الأول لكي تفتح “” ممرا معتما يصلح لتعلم الرقص “” هذا هو عنوان ديوانها الأول الصادر عن دار شرقيات في العام 1995، وحين نمشي معها وندوس تراب الشوارع نشعر بالدوار الذي اصابها من الخطوات العنيفة للرقص حتى تغير الايقاع تماما . وصلنا إلى نوع من الهاوية ، والحافة تلك التي وصلتها جاءت بكبرياء ديوانها الثاني ؛ “” المشي أطول وقت ممكن “” . طلعت من الجاذبية المخيفة والهجران الذي كان موجودا من قبل لكنه تكرس في العام 1997 وعلى جميع المستويات ، وهي تبدأ بالبحث ، بدءا من الجذر الأول : “” قريتي العزيزة الجميلة ، وطني الأم الذي يزورني كل ليلة في الكوابيس . اصبحت لشوارعها أسماء كتبتها الحكومة بنفسها : شارع الثورة ، الفراعنة ، الخلفاء الراشدين ، حتى ان هناك سهما يُشير إلى المقابر مكتوب عليه “” المقابر “” .
4
ديوانها الثالث : ” جغرافيا بديلة ” صدر في العام 2006 ، وجميع الدواوين صدرت عن دار شرقيات في القاهرة وبطبعتين . هذا الديوان الثالث عندما بدأ التركْ الأول للقرية ، للقاهرة ، للبلد كله ، والعيش ما بين كندا والولايات المتحدة ، العمل هناك ، ثم الزواج والاولاد . نبرة الديوان هذه بعيدة عن التصديق ، كأن الشاعرة كلما ذهبت لكي تلحق بأحد ، بالطائرة ، بالمحبوب ، بالبلد ، بالبيت ، بالقصيدة ، بالكتب لا تلحق به ، لكنها ينبغي ان تبقى تفعل ذلك دون استئذان من أي أحد . لا تتشاجر لكنها في الأغلب كانت مستعدة على دفع جميع التكاليف ، فالحالة التي نسميها الوطنية قبل ان تترهل وتصبح زائدة على اللزوم ، فلنشعر بوطنية إيمان مضفورة بالايمان وهي تريد ان تبرئ الوطن من كل جهة لكي لا تتحول حياتها إلى حطام : “” لكم تمنيت أن تبدأ حرب أو حريق بينما البطارية
مازالت جديدة
لأجلس في ذلك الخراب على ركبتي وألتقط صورا
لمن تحت الأنقاض
ثم أريها للناجين في زيارة قادمة.
حتى يفرحوا أنهم نجوا “”
+++

لكن الشاعرة لا تعرف النجاة ، هي أصلا تذهب في الطريق المضاد له . حضر اسمها بالمصادفة حين قال صديقنا القاص والكاتب الجميل سعيد الكفراوي ونحن في ضيافة صديقتنا الكاتبة إنعام كجه جي ، انه يقرأ هذا الديوان الآن . أي ، جلبه معه من القاهرة لكي يقرأه هنا في باريس . قال كل ذلك حين شاهدني وأنا أتحفز لو يتركه لي طالما هو عائد في اليوم التالي الى القاهرة وهذا ما حصل ، تخلى عن الديوان لي كما تخلت الشاعرة عن فكرة البيوت ، ولكن هذا غير دقيق . كنت أرى طفولة إيمان الشاعرة واحدد ارتفاع الكتابة . إن الأمر يقتضي ان تدع الشعر يبارك بيتها ويتوج موهبتها ويكرس استحقاقها وامتيازها . لم أقرأ مقطعا واحدا بما يسمى بكتابة الترضية للغير ، أو للثقافة السائدة ، أو للبلد أو … لم تكتب لأنها تريد ان تشرح أو تفسر : “” ماذا يفعل شخص جاء إلى هنا ليقرأ قصائد عن هناك لأناس ليسوا من هناك حين يأكله الذنب سوى ان يقف مثلي الآن في شرفة فندق خمس نجوم ويشعل سيجارة “”
قصائد لا أود الانتهاء من الكتابة عنها فهي تفتح أفقا ويحضر الشهاب،حين نلاحظ انها كتبت لكي تعهد بها إلينا وبالطريقة الملهمة هذه ، كُتبت ودائما كأنها في اللحظة الأخيرة . هنا ، في كل صفحة وسطر وعي متحرر من معايير الآخرين ، من خيرهم وشرنا ، وعلى وجه التحديد ، من نظام القيم : “” مؤخرا بدأت أشك في وجود الشر أصلا
كأن الأذى كله يكون قد حدث بالفعل
في اللحظة التي نتأكد فيها
أن الكائنات التي ادمْيناها كانت حقيقية “”

السبت 12 محرم 1435 هـ – 16 نوفمبر 2013م – العدد 16581
http://www.alriyadh.com/884317