إلى روما مع حبي

عالية ممدوح
1
قاعة السينما صغيرة قياسا لغيرها الواقعة في الحي اللاتيني، ففيلم وودي ألن “إلى روما مع حبي” بدأ عرضه في اوائل حزيران الماضي، يومها كنت في مونتريال وحين عدت كان يعرض فترة الصيف في الساعة الثامنة والنصف مساء فقط. والحل، سألت الموظفة التي تعرفني من ادماني على قاعات السينما فردت قائلة:
– سيعاد عرضه في منتصف سبتمبر.
أخرجت ورقة بيضاء وبدأت تكتب لي أوقات العروض. في اليوم الموعود وقفت في الطابور. في البدء كان المطر خفيفا كما هي أمطار ايلول وبالتدريج تضاعف فصار سيلا فحشرنا حشرا في مدخل السينما. وددي ألن دائما يفعل شيئا آخر نعرف مفرداته وثيماته ما بين الضجر من المدينة العملاقة، نيويورك التي يحبها ويحنق عليها ومنها، وبين اللذة التي تلهمه إياها تلك العلاقات فيما بين البشر وهو يحاصرهم في مواقف وصراعات تقود إلى غير التوقعات وهو يلاحقها كما يلاحق شخصيات افلامه. هذا الفيلم اعلنت شركة سوني عن اسم فيلم المخرج الأمريكي الشهير وهو يسلط الضوء على مدينة أوروبية جديدة، بعد لندن وباريس وأسبانيا. التجربة الأقل نجاحا عن المدن كانت تجربته عن مدينة لندن. اما فيلمنا هذا فهو كوميديا ساخرة فكاهية جدا. أنتج عام 2012. ألن كتب السيناريو ولعب دور البطولة واخرجه.
2
على الدوام وفي جميع أفلامه كانت حرفيته الفاتنة تضع الاحابيل أمام الكائن الموجود في المدينة التي تتشابه في العلاقات والعلم، في الضجر والوحدة. يقينا هو يدرك ان الاحابيل موجودة دائما لكننا لا نلحظها دائما بتلك الطريقة العبقرية التي يرميها في طريقنا هذا الفنان. اما ان يكون الفخ من الخارج وقد نصب لنا وبرتابة وجودية نحاول الخروج منه أو انه الفخ الذي نضعه لأنفسنا ودون علمنا تماما. وحين يحضر أحدهم كما هو هذا المخرج أو أحد الاطباء، أو.. فيقول لنا؛ إلا ترون انفسكم فيسقط في ايدينا. هذا الفيلم يحكي حكايات متداخلة مع بعضها لأربعة اشخاص. موظف يستيقظ في أحد الأيام ليجد نفسه من المشاهير. مهندس معماري يسافر إلى ايطاليا ويزور الحي والزقاق الضيق الذي سبق وعاش فيه حين كان طالبا يدرس الهندسة المعمارية. عروسان يقرران قضاء شهر العسل في ايطاليا. مخرج يهوى الغناء دائما وفي أثناء الاستحمام. ترى كيف تتقاطع حيوات هؤلاء مع بعض وبالتالي مع أنفسهم؟ ما هي الافخاخ البسيطة والمعقدة الموضوعة أمام الذات البشرية والتي توضع في طريقنا وتعلمنا سواء بالعنف أو الفكاهة كيفية الخروج من المآزق. قصص جد عادية. كوميديا بها مسحة من رومانسية لم يعد يلتفت إليها أحد، على الخصوص في العلاقات بين الرجال والنساء وعلى شكل غير متوقع وهذا هو أهم ما نلاحظه في عموم افلامه.
3
يقوم جيري (ألن وزوجته فيليس، جودي دنيس) بزيارة ابنتهما، هايلي وخطيبها الايطالي الجديد، مايكل أنجلو. هناك الأمريكيان المرتبطان بعلاقة حب ويعملان في ايطاليا ويعيشان في حالة من الغنى بالحب والوفاء إلى أن تحضر صديقتها في رحلة قصيرة لزيارتهما فتنقلب الأحوال رأسا على عقب. دائما هذا ال ألن يضع أحدا في طريق أحد ونحن لا ننتبه إلا بعد حين. نُستختم ونُستعمل وفي نهاية الأمر نلزم انفسنا اننا أمام صراع يطال الجميع. ينغص علينا أحوالنا ويورطنا وقد يقود إلى مهانة أو يتنافى مع تلك المبادىء.

ألن الأب الذي يزور ابنته، هو المتقاعد الفضولي الذي يحشر نفسه في شؤون الغير وإثارة اعصاب زوجته والجيران فتقوم الزوجة وتنكد عليه فينكد هو على الاخرين. فبعد التقاعد يصير الآخر شغله الشاغل فكنا نطلق ضحكات وقهقهات طويلة ومتواصلة بين لقطة وثانية. طريقته الساحرة اللامبالية الساذجة والحمقاء والبريئة التي يتفنن بها وددي ألن وهو يلح على والد خطيب ابنته ان صوته ممتاز ويصلح للغناء أمام الجمهور، والابن لا يوافق على تدخل الغير في حياة والديه. لكن الأب وهنا الفخ يصدق نفسه انه فنان أصيل وهو يريد تصديق ذلك. إننا نحتاج إلى حركة واحدة من الغير لكي نغير أو نقلب مصيرنا رأسا على عقب. فبدأ والد خطيب الابنة وبالحاح لا مثيل له بالغناء وبطريقة جد طريفة وهو تحت الدوش مغطى برغوة الصابون، يواصل وهو يجفف جسمه بالمنشفة والماء يسيل على جسمه والصوت يسيل صداحا في اروقة الاوبرا والجمهور يتصايح من النشوة.
4
لم تفتر ضحكتي طوال عرض الشريط أنا والجميع. تماما، نحن نحضر إلى هكذا أفلام لأننا نؤثر الابتسامة والمرح والطيش الخفيف والتواطؤ على أجهزة ادمغتنا المعقدة. زوجان ايطاليان حضرا إلى روما لقضاء شهر العسل وعندما تخرج الزوجة القادمة من الريف البعيد وهي تبحث عن حلاق من أجل المناسبة لكنها تتيه في أزقة روما القديمة فيلتقيها أحد نجوم السينما. وزوجها من الطرف الآخر عندما يئس من عودتها فتتسلط عليه فتاة هوى هي الفاتنة الأسبانية بنلوبي كروز. كل واحد من هؤلاء لا يعود هو ذاته وفي لحظة من وجوده. كل واحد لا يكرر الدرس الذي حفظه من قبل وعن ظهر قلب. ألن يضعنا أمام درس جديد لم يمر بنا من قبل. كروز قالت للصحافة وعن دورها هذا: إنها احبت الدور كثيرا بعدما قرأت السيناريو واحببت الشخصية. فهذه المرة الثالثة على ما أتذكر تحضر ذات الجاذبية القاتلة إلى افلام ألن فقد جذبها في فيلمه السابق عن برشلونة وهو الذي شجعه للسفر إلى ايطاليا وعمل هذا الفيلم وكأنه يريد كتابة تحية اكبار واجلال إلى معلمه الفذ الذي يعشق افلامه، فردريكو فيليني فهو قد انتج في العام 1980 فيلما بعنوان سحر الذكريات حالة نفسية خيالية أو حالة سحر تامة واهداه إلى المخرج فيليني. اما هذا فهو خفيف ناعم لا يحتمل الهم الوجودي المكثف الأول فقد هرم ألن كما نحن وتوضحت الصور في رأسه كثيرا فوصل إلى الضحك الممزوج بشيء من مرارة رهيفة نقدر على تذوقها معه وهو يباغتنا ولا يستنكف أو ينكر السخافات والترهات أو الأشياء الجدية أيضا.
*****
حين تسأله الصحافة عن شخصيته فردوده حاضرة وهي شديدة الظرف حين يعددها: أنا رجل فصامي، أحب التملك، مضجر ومزعج وغير موهوب. هو يغرم بعبقري آخر فقد كان في اسبانيا حين اذيع نبأ وفاة المخرج السويدي الملهم إنغمار بيرغمان 1918 2007 . كان مخرج ألن الأثير على قلبه فقال بعد وفاته: “كان سينمائيا ساحرا لم يشبهه أحد في كونه مثقفا وفنانا وتقني أفلام وحين تعرفت عليه في نيويورك لم يكن أبدا ما تتوقعه عنه: الوقور السوداوي العبقري والمكتئب، بل كان شابا عاديا وقد تحادث معي عن الارباح المتدنية لشابيك التذاكر وعن النساء وعن العمل في الاستديو. واعتقد ان لأفلامه حضورا خالدا لأنها تتعامل مع صعوبة العلاقات الشخصية ومع انقطاع التواصل بين الأفراد ومع الطموحات الدينية والاخلاقية وهذه ثيمات وجودية ستبقى حاضرة لألف عام من الان. إن ما تركه يبقى عظيما”.