الـجـثـث تـبـغـض الـتـنـظـيــر

عالية ممدوح
-1-
ظهرت مدونة عراقية يكتبها الشاعر والروائي والصحافي وهو يسدد ثمن احتضاره ودماء أهله. تحاصرنا هذه
المدونة جسداً جسداً، ينغصون علينا الجزع عليهم حتى، يجتاحوننا بلا ادعاء، ويحرثوننا بيد بستاني يريد أن ينغص
علينا اللقمة الأخيرة من أرض أكلها الدود وعاشرها العفن والفساد. أنا لا أعرف جميع أسماء أولئك الكتاب
والشعراء، ولا أعرف من هم، وكيف رسخوا ثقل تجربتهم الفتية ولم يفرطوا بما بقي من البلد، بقي لنا -هم-. كاظم
خنجر، هذا اسم الشاعر في ديوانه الصادر حديثاً عن دار مخطوطات في هولندا في طبعته الأولى 2016. “نزهة
في حزام ناسف”. كاظم ابن خنجر اسم صاعق بثقل الآلة القاتلة في نسيج اللقب، لكن داخل النص يرسخ ودفعة
واحدة حقوق الموتى والقتلى والذين نصادفهم في محيط الموت يوميا. كتابه جرد من جميع الأسلحة الفتاكة، فهو شيخ
يكرر درس واحد؛ كيف يطبق اجفان الأخوة القتلى، ويستذكر معهم لحظات النوم الهانئة: “يقول التقرير الطبي بأن
كيس العظام الذي وقعّتُ على استلامه اليوم هو “أنت” ولكن هذا قليل. نثرته على الطاولة أمامهم، أعدنا الحساب :
جمجمة بستة ثقوب. عظم ترقوة واحد، ثلاث اضلاع زائدة، فخذ مهمشة، كومة أرساخ، وبعض الفقرات. هل يمكن
لهذا القليل أن يكون أخاً”.

-2-
في زيارتي الأخيرة إلى لندن حولت هذا الكتاب/ الرواية إلى إحدى الصديقات المترجمات العربيات اللاتي تريد
وتنتظر نصوصاً لا تجعل الآخر مطمئناً، ليكن هذا الآخر الأنكليزي الأمريكي والأوربي. تريد نصوصاً تثير البلبلة
لكنها مكتوبة بفنية جيدة أيضا. لم اسمع منها، ومن الجائز لن يتم، فاوضاع الترجمة إلى العربية محبط في المملكة
المتحدة . كاظم يستدعي أرشيفية محمولة من عصور انحطاط العراق على مر تأريخه الدموي، وليس محض مقاربة
للاحتلال فقط وما بعده، وإلى يومنا، وفي تفكيك البلد إلى شوارع للطوائف الخ. انه ينظم حقول القتلى ولا نقرأ
التوقيع في ختام النص. هو توقيع ممهور ببيان جميع المرجعيات والطبقات السياسية التي قامت برهن وأهانة كل
شيء؛ الثقافة والمعارف والدين والمعتقدات واللغة: “في الصباح، كنّا نتيه مثل بصر ضعيف، ونقارب بين الرأس
وجثته، وندرك في أعماقنا أننا نمنح الرؤوس لجثث لا تعرفها”. كتابة اشتغلت على ختان الحنين المتباكي والبلاغة
الركيكة والدلالات التبسيطية. كتابة هذا العراقي الذي ابتكر منطقة البرودة لتحمي منظومة الأخوة الوحيدين الذين لا
يجوز التعرف عليهم الاّ وهم عظام. حسناً، هو عثر على العظام!

-3-
الجثث قابلة للنقاش. الجثث في هذا الكتاب تبغض التنظير. الجثث في وسعها أن تقوم بتشريخ التاريخ دون التماس
الأعذار، أي عذر لجميع أنواع القتلة واللصوص والعاهرات. أظن لم يكن أمام الكاتب والشاعر العراقي الا هذا
التهكم الرفيع من رجال نقول عنهم بالعراقي ـ لنكات ـ مستعملين جداً، طبقة، وطبقات مهمتها الوحيدة توزيع
السفاهة، واحتكار الفساد، واستهداف الحياة، ما تبقى من الحياة. كاظم خنجر يتشبث بالفسحة الوحيدة التي تُركت له،
الجثة وهي تتجول في المخيلة وتقول الحقيقة:

“كنت أسعى لأرى لون الحرية
درجة حدّتها،
وأحمل رأسي معكم، واحتفل”
بشغف وددت نقل معظم النصوص إلى القارئ الكريم، فأنا أريد حفظها من عوادي اللئام وأضعها أمانة لدى جيل
شاب كما المؤلف، كما هو الجيل المصري والسعودي والتونسي والسوري الخ. جيل مأخوذ، ربما، بعنوان الفيسبوك
الذي أخاف عليه أن تبقى الرسائل النصية هي المؤلف النائب عن الإبداع الحقيقي.

-4-
يتوفر هذا الديوان على جميع أدوات القتل التي استخدمها القاتل، وعلى جميع الأجساد الصالحة لتلك الأدوات، على
السخرية من الأدوات ذاتها، وعلى مناوشة الموت لكي لا يتزاحم هكذا ويسبب ازعاجاً لذوي القلوب الضعيفة:
“نحن العراقيين
تحك الكلاب العسكرية في نقاط التفتيش أنوفها بعيوننا.
نحن العراقيين، التابوت بأطرافه القصيرة يٌوحد أكتافنا.
نحن العراقيين
دودة نائمة في رمانة العالم”
“في الولايات البعيدة عن الانهار
يحرقون الجثث لتشم أخاك بسهولة”
ماذا أفعل بالصفحات 48، 49، 51، 53، 57، 63، 66، 70، 75 من قوة زخمها المدهشة:
“فها هي جثتك تتفسخ على السرير منذ شهور
وفي كل يوم أجمع الدود الخارج منها
أضعه في حوض زجاجي
فمن نحبهم علينا أن نربي دودهم عندما يرحلون”.

https://www.alriyadh.com/1500963