هامش للجنون لتلك الصديقة المجنونة .. – عالية ممدوح

1
أراه أمامي في بدلة كاملة بلون غامق أو فاتح، وتضغط على تفاحة آدم قبة قميص منشّأة يزينها الرباط بلون يحضر من تدرجات لون البدلة. كلما ألتقيه يكون في كامل قيافته، هكذا، طالع من الكاغد، مهندما مرتباً وبالسنتيم، فيبدو لي أنه على موعد لتسجيل برنامج تلفزيوني، كما يجهد نفسه ألا يغلط في استعمال اللغة العربية الفصيحة كأي مؤرخ! الجمل مثل ثيابه طالعة من الكتب، مُشكلة كالخطب، والصياغة مبرمجة؛ آه كم يعرف من شواهد الشعر والحكمة والامثال وأسماء المعلقات وارقامها السرية في الذائقة الوجدانية. نعم، هو رجل مهذب ورزين . يحذف من كلامه ما قد يسبب للآخرين من سوء فهم غير مقصود. إنني لا أنتظر منه إلا ما أعرف، لا ما لا يُتوقع ! رجل لا يسبب أي نوع من أنواع القلق.
يحضر من الجهة إياها وعلى الأغلب لا يحضر. يقول ما لا نتخيل فنتوقف عن طلب المزيد . آه، بالطبع هو في منتهى الكياسة لكنه لا يكسر القاعدة، ولا يحدث الدوار في الرأس. لا يذهب خارج السرد ولا نخترق معه أصول الكتابة، ولا نصطدم بالرواة العصاة داخل كل واحد منا.
جدتي وفيقة العظيمة كانت تسمي هذا الجنس من الرجال ب: المستور !
2
فكرت بهامش صغير للجنون بغية المثابرة على الوجود ومرافقة القصة من أولها إلى يائها. كيف تولد وتنمو وتموت وهي تسلك، إن اقتضت الحاجة، تجنب كل نوبة جنون، ولو لثانية من الزمن. لو تقول لحالك، افلحت يوما إذا ما كتبت نصاً مجنوناً لا جيداً فقط، ولو من باب المغامرة الذاتية فحسب. من باب أن تثبط تسلسل ذات المفاهيم، فتتفادى المنطق، فالحب لا تستهويه المقطتفات! لو يرتدي نصك الشورت والقميص المفتوح والصندل الرياضي وقبعة الكتان الخفيفة التي تدعك أكثر رشاقة وطفولة.. الخ، لو تتعلم التهكم والفكاهة ولو ليوم واحد في الأسبوع أو الشهر أو العام، فتطلع من الثابت الذي قد يعطيك الوفرة من النجاح الذي يعرّف ويقرن بك، لكن المتحول يأخذك إلى الطريق السريعة ومشارف الروح الصاخبة التي تخشى الاقتراب منها!
3
أحسب أنه لا مراجع لدينا في نوبة الجنون الوجودية إذا ما طفحت على المرء، وشهّرت عليه وليمة من اللطافة، الا ما يردده الكثير” منهم ” فيما لو ظهرت على بعضنا ؛ “كالمرض العقلي الذي يحتاج ” لعلاج “.
حديثي ليس عن بطلان العقل أو الاحتفاء باللاعقل. إنني أنظر بأريحية وعلى مد النظر لذلك السخاء الوضاء الذي يحضر مع الذين نحبهم، ونقرأ في العينين بريقا لا يضاهى. وتتغير عاداتنا، فلا نعود نسأل على أي اعتدال في الأفكار،
و… نصير أمام الريح والشمس والازهار وكأننا نعود إلى ضلوع أمنا الأرض في عزيمة لا ندري من أين تحضر، وكيف تفتح القلب إلى آخره، ولماذا لم نر كل تلك النوارس من قبل، فننشد الأغاني التي لم تستهونا في السابق.
اغنيات فورية لا نعرف من ينشدها، ومتى تم تسجيلها، ومن هم اصحابها أصلاً؟ ً
تصعد انظارنا إلى الأفق، فتلتقي الوردة بالزرقة بالبشاشة ودفعة واحدة. فلماذا يسيل الحب على ذقوننا فلا نفكر بالمحبوب فقط، لا نصغي إليه، ولا يعود هو قضية شخصية، فنردد ؛ ما عليك من الآخر، فلم يعد لك الا فؤادك، فخذه على مسؤوليتك وتحمل نشوته وعقوقه.
4
جنْ وتجنن . سيُغشى عليك من التلاشي، فتنطوي على حالك، فلا يُعلن عن قدوم المحبوب . فأنت لا تذهب لانتظاره، وعلى وجه الدقة، أنت لا تخاطبه، فتتبجح وحدك بالجنون. وتكون في متناول نفسك، تقلبها كما تشاء وتلقنها الدروس تلو الدروس. ياه، ما أفقرنا جميعا ونحن لا نعرف كيف نلبي أوامر قلوبنا. ما أفقر أحاديثنا وأفكارنا وحيواتنا عن الحب. ما أعطم أوهامنا ونحن نتعلل بذاك المكبوت مرددين أنه بلغ خاتمته فصار حباً، وهو خلاف ذلك قطعاً.
إننا نخاف أن نقول؛ نحب فلاناً، فنتناقش بالجريمة والتكفير والخبث، ولا نتوصل لصيغة إنسانية تعتني بالرحابة وفتنة الحب. جل أعمالنا الروائية تدون بطريقة النكران، فنحن لا نعرف كيف نحب. نحن أمة قدمت للبشرية تراتبية في مفردات الغرام تتكون من أربعين درجة في العشق والولع. نحن أمة حسودة للعشاق، تكنّ الضغينة لهم فظهرت لدينا قصائد تتعلل بأوهام الحب لا ببلوغ الألفة . وروايات بخيلة وركيكة تعاني من موات يرقد في قاع الروائي فيضع الحب ديكوراً معتماً لا نشيداً للأبد.

السبت 27 ربيع الأخر 1437 هـ – 6 فبراير 2016م – العدد 17393

http://www.alriyadh.com/1126165